الولايات المتحدة مثال للّصوصية العالمية
عناية ناصر
سارت قواعد اللصوصية الدولية الحديثة على مدى عدة عقود في اتجاه أن الولايات المتحدة هي من يحدّد مكان الصديق والعدو وقواعد اللعبة، حيث تمت كتابة هذه القواعد باستخدام العقوبات أو الحروب التي لا نهاية لها أو التهديد بالحرب. وهنا يثار العديد من الأسئلة الاستراتيجية، مثل هل السلام والديمقراطية ممكنان في مثل هذا العالم؟ أليس هذا هو الوقت المناسب لجعل الحقوق الدولية الأساسية المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة عالمية؟ ألا يجب محاولة تغيير ديكتاتورية أمريكا العالمية التي سادت تحت غطاء النظام الدولي الجديد، واستبدالها بنظام متعدّد الأقطاب؟.
لقد تمّ التأكيد بوضوح في القسم القانوني من ميثاق الأمم المتحدة أنه يمكن لكل بلد أن يختار بحرية مسار طريقه سياسياً واقتصادياً. بعبارة أخرى، لا يوجد شرط حول كيفية تطبيق الحكومة لنظام الحكم الخاص بها. لكن السلوك الأمني والسياسي العنيف للولايات المتحدة في آسيا، وخاصة فيتنام، إضافة إلى عملية بناء الدولة في أفغانستان والعراق، أدى إلى حروب ودمار لا نهاية لهما. هذا السلوك ألمحت إليه الولايات المتحدة كما لو أن الغرب، تحت قيادة الولايات المتحدة، له الحق في التدخل والتحكم بشأن نظام حكم الدول أو معايير الديمقراطية، ويمكنه أن يقرّر أي دولة هي ديمقراطية جيدة.
على الرغم من الموقف الواضح للقانون الدولي في ميثاق الأمم المتحدة، فقد منحت الولايات المتحدة نفسها حتى الآن الحق في تقرير ما هو ديمقراطي، وما هي القيم التي يجب تطبيقها في العالم. ومع ذلك، في ميثاق الأمم المتحدة، تم التأكيد على أنه لا يمكن لأي حكومة أو دولة التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، وإجبارها على تبني أو اتباع “قيم” معينة. لكن في منطق واشنطن يبدو أن القوة هي التي تغلب، وهو ما نراه عملياً عندما تريد الولايات المتحدة إطلاق النظام العالمي الجديد بفعل الحرب، حيث يصبح ميثاق الأمم المتحدة، وأحكام القانون الدولي عقيمين، ولا جدوى منهما، وتصبح أمريكا قادرة على نهب دول، وشنّ حروب لمعاقبة أخرى، مثل أفغانستان أو العراق أو تشجيع دول، مثل السعودية، على المضي في حربها ضد اليمن.
تكمن المشكلة في أن ما بقي في بنية النظام العالمي الأمريكي دائماً هو المبدأ الأساسي القائل بأنه لجهة واحدة فقط الحق في تحديد حقوق الآخرين، لكن من الواضح أنه في هذا النظام، لا يوجد شيء مثل الحقوق المشتركة أو الحق في التمتّع بالحقوق الدولية، وكل شيء يتم تصديره من جانب واحد من أمريكا.
ويُظهر مثال بسيط مدى خداع هذا التعيين أحادي الجانب، وذلك من خلال تعيين الولايات المتحدة ممثلة خاصة لحقوق المرأة في أفغانستان، حيث تعدّ حركة طالبان من أشد المعادين للنساء وحقوقهن لسنوات، لتصبح الرواية أكثر سخافة عندما يتحدث بايدن عن انتهاك حقوق المرأة في أفغانستان، وأن الولايات المتحدة تدين عدم احترام حقوق المرأة الأساسية في أفغانستان كحرمان طالبان المرأة من الحق في التعليم، علماً أن الولايات المتحدة على دراية تامة بأفكار جماعة طالبان وسياساتها السياسية والثقافية.
تكمن المشكلة الأكبر في أن الولايات المتحدة تعطي لنفسها الحق في استخدام معايير مزدوجة في تطبيق أي أمر يعود بالنفع عليها وضمن الإطار النفعي للعلاقات مع حلفائها، ومن ضمنها احتلال دولة أو تسليم الدولة المحتلة للجماعات التكفيرية الإرهابية.
هل تقبل الولايات المتحدة أن يتم تعيين فريق عمل من قبل الصين أو من قبل الأمم المتحدة للتعامل مع الإبادة الجماعية للهنود في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة؟ وهل أمريكا مستعدة لتعويضهم عن الإبادة الجماعية واحتلال أراضيهم؟ وهل ستسمح أمريكا للصين أو أي دولة أخرى بتتبع وضع السود في أمريكا؟ وهل هناك دولة تستطيع إجبار أمريكا على أن تصبح عضواً في محكمة لاهاي الدولية لجرائم الحرب؟.
لقد قامت الولايات المتحدة بحظر 300 مليار دولار من احتياطيات الذهب والنقد الأجنبي لروسيا، والأصول الأجنبية للمؤسسات والأفراد الروس، فهل يمكن توقع أنه في حالة نشوب حرب من قبل الولايات المتحدة، أن يتم الاستيلاء على المبلغ نفسه من أصول الأفراد وشركات ومسؤولين أمريكيين من قبل دولة ثالثة؟.
ومن القضايا الأخرى التي أثيرت في تعامل أمريكا مع الدول الأخرى، إنشاء نظام نهب في الاقتصاد السياسي العالمي تذهب معظم فوائده إلى جيوب الأمريكيين، ومن أجل الحفاظ على مكانتها كأمين صندوق لرؤوس أموال الدول الأخرى، أجبرت أمريكا أو شجعت معظم الحكومات المجاورة لها على تكديس احتياطياتها من العملات الأجنبية في الولايات المتحدة، بحيث عندما ترى الولايات المتحدة الظروف مناسبة فإنها لا تمتنع عن نهب ممتلكات الدول الأخرى. على سبيل المثال، تواجه أفغانستان، التي تعتبر واحدة من أفقر البلدان في العالم، أزمة مالية حادة بعد وصول طالبان إلى السلطة نتيجة الاتفاق مع البيت الأبيض، وهي التي واجهت نهب ممتلكاتها، حيث صادرت الولايات المتحدة 7 مليارات دولار من تراكم الثروة الإقليمية الوطنية للشعب الأفغاني. لكن المفارقة هي أن الولايات المتحدة لن تعيد نصف هذا المبلغ البالغ 7 مليارات دولار إلى أفغانستان، والذي خصصته لضحايا الحادي عشر من أيلول، رغم أن نحو 24 مليون شخص يعيشون في أفغانستان في حالة جوع حاد.
ما يزيد الأمر سوءاً هو أنه وفقاً لتقديرات وكالات الاستخبارات الأمريكية، لم تكن طالبان المتورطة في هجمات الحادي عشر من أيلول بل “القاعدة”. إضافة إلى ذلك، كان معظم الجناة سعوديين، لكن لم يتم التحقيق بجدية في قضية تورط السعودية أو دورها.
السؤال الأهم: من أين يجب أن تحصل العائلات التي فقدت أفراد عائلاتها في أفغانستان أو العراق أو ليبيا نتيجة حروب الولايات المتحدة الوحشية على تعويضاتهم، حيث قتل أكثر من 200 ألف مواطن عراقي في الهجوم الأمريكي على العراق، ولقي الكثيرون حتفهم بسبب النتائج غير المباشرة للحرب، مثل تدمير نظام تأمين الغذاء والصرف الصحي ومياه الشرب وسوء التغذية والأمراض؟.
وفقاً لـ”إيروارز” وهي منظمة غير حكومية مقرها المملكة المتحدة والتي تراقب الغارات الجوية والأضرار المدنية، قُتل ما بين 22000 و48000 شخص في غارات جوية أمريكية مباشرة بعد الحادي عشر من أيلول، فهل يمكن للمدنيين الذين قتلوا المطالبة بتعويض من الولايات المتحدة في محكمة دولية؟ لا توجد أية إجابة، لأن هذه هي أعمال اللصوصية الجارية في النظام العالمي الأمريكي.