الزمن “الأردوغاني” الماضي
أحمد حسن
ربما كانت الميزة الوحيدة لكلام وزير خارجية أردوغان الأخير بشأن سورية هي وضوحه، بحيث لا يحتاج إلى قراءة أولى وثانية ولا إلى البحث في المعلن والمضمر للكشف، فوراً، عن انتمائه – وخاصة بعد إيضاحات الناطق باسم الخارجية عن دور بلاده “السلمي” الذي لم يسمع به أحد خارج القصر الرئاسي التركي – للسياق والزمن الأردوغاني المعروف عالمياً، بكونه ماركة مسجّلة للمخاتلة والخداع حتى في طريقة الإعلان عن هزيمة وانهيار “العثمانية الجديدة” التي كانت محتومة منذ البداية.
وجه المخاتلة هنا أن التصريح الذي حاول صاحبه الحقيقي، أي أردوغان، أن يقدّمه كنصيحة “حكيم” مجرّب – وحيادي وبريء – عن “ضرورة المصالحة بين السوريين” لإنهاء النزاع، يبدو كلاماً خارجاً عن السياق الحقيقي للأحداث، لأن صاحبه يعرف جيداً أن الأمر أبعد من “مصالحة” كان يمكن أن تتم منذ زمن طويل لولا “نشاطه” ضدّها هو وأمثاله ممن حلموا يوماً بإخضاع دمشق، وأن “إحلال السلام”، كما يصفه، يقتضي أولاً خروج المحتلّ، أي هو والأمريكي، ويرتبط ثانياً بوقف دعم الإرهاب ورعايته، الذي يقوم به هو والأمريكي أيضاً، والتوقف، ثالثاً، عن التأثير سلباً في العملية السياسية السورية عبر فريقه المعروف في اللجنة الدستورية، وهذه إجراءات وطرق تقود كلها إليه بالمحصلة كفاعل سلبي، ومجرم، لا حكيم حيادي.
والحال أن الرجل الذي يبدو اليوم منتشياً بكون المؤشرات الإقليمية والدولية تشير إليه كواحد من الرابحين في هذا الصراع العالمي الطاحن، لا يشعر في قرارة نفسه بذلك لأنه يعرف جيّداً أن خيوط هذه “المؤشرات” تتجمّع، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، في أيدي موسكو وطهران ودمشق لا واشنطن وبروكسل، وبالتالي فإن إمكانية “حلّها” موجودة دائماً، ويعرف أيضاً أن أجداده العثمانيين وإن كانوا قد دخلوا المنطقة من بوابة دمشق لكنهم خرجوا منها من البوابة ذاتها أيضاً التي يبدو أن على “الحفيد” الخضوع لتجربة مختلفة قليلاً عنهم، أي إعادة الدخول منها ولكن برضا دمشق هذه المرة وبشروطها كي تنفتح أمامه بوابة قصره ذاتها في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
لذلك كله يبدو، بالنسبة إليه، الوقت مناسباً، وضرورياً، لخطوة أو تصريح يحاول به أن يحصل على مبتغاه وأن يقدّمه، في الوقت ذاته، كمرافعة سياسية للدفع ببراءة مزعومة “من دم هذا الصدّيق” السوري، لكنها، في حقيقتها، ليست إلا مرافعة “مخاتلة” خالية من صيغة اعتراف أو حتى نبرة اعتذار لتبدو، في واقع الحال، كأغرب جملة يمكن أن تصدر عن معنيّ ما، ولو سلبي، بالقضية السورية، ليس بمضمونها بل بمصدرها وقائلها، أي أردوغان تحديداً، الذي حاول لمدة تربو على إحدى عشرة سنة زمنياً -وبتكلفة إنسانية وأخلاقية باهظة تجاوزت مئات آلاف الشهداء وملايين المهجّرين- بكل ما يقدر عليه إخضاع دمشق ما عدا “الحل السلمي” و”المصالحة” باعتبارهما كانا، وما زالا، إعلان هزيمة مدوّية لأوهام “سلطان” كلّفت المنطقة، وبلاده أولاً الكثير الكثير.
واللافت في الأمر أن “اعتراضات” بعض أتباعه على كلام وزير خارجيته انتمت، وللمفارقة، للزمن والسياق الأردوغاني ذاته، وكلنا يذكر أن الجماعات التي رفعت ضده الآن شعار “لا للصلح” كانت قد رفعت سابقاً وبدعم كامل منه شعار “جمعة لا للحوار”، ليثبتا أنهما معاً، أي أنقرة وجماعاتها، ينتميان إلى بيئة فكرية واحدة لا تعرف إلا الإلغاء والتصفية الجسدية والفكرية للآخر.
ولأن لكل موقف ما مهما كان جدياً جانبه الكوميدي الساخر، فقد كان لهذا الموقف التركي “أثافيه” الثلاثة كما يُقال، أولها تمثّل في قيام قسم من “أتباعه” ومرتزقته الذين رعاهم وموّلهم بحرق العلم التركي، وثانيها استنفار قسم آخر لاستنكار عملية الحرق باعتبار العلم التركي “راية مقدسة” و”مصدر فخر”، مشدّدين على ضرورة “محاسبة مَن تجاوز حدوده بالتطاول” عليه من “المندسين”، بينما علم بلادهم لم يكن كذلك، ليؤكدوا مرة جديدة حقيقة “انتمائهم” وعمالتهم للمحتل لا للوطن، أما ثالثة الأثافي فكانت اتهام وزير داخليته، سليمان صويلو، دمشق بتحريض السوريين في مناطق الاحتلال التركي على الخروج في احتجاجات ضد المحتّل!، وهذا كلام لا ينفع معه سوى القول: “عِش في زمن أردوغان ترَ عجباً”!