التوسّع، والتوسّع المضاد
د. عبد اللطيف عمران
كثيرة هي الأحداث التي دفعت بغالبيّة شعوب الأرض التي استفادت من نتائج حركات التحرّر الوطنيّة والعالميّة في القرن الماضي، إلى القلق والإحباط مّما جرى ويجري على الساحة الدوليّة ولا سيّما بعد انهيار الشيوعيّة ومنظومة أوروبا الشرقيّة وما يتصل بذلك من حلف وارسو…، مقابل طفوّ المركزيّة الغربيّة بقيادة المحافظين الجدد وتفعيل دور الصهيونيّة العالميّة، وبروز الدور القوي والفاعل للكيان الصهيوني في المنطقة والعالم مستفيداً من تلك الأحداث.
لا شكّ في أنّ هذه الأحداث فاقمت مشاعر الاستسلام أمام التحالف الصهيوأطلسي الرجعي العربي والعثماني، فارتفعت معها المراهنة على دور أساسي وفاعل لأحادية القطب عند كثير من الأنظمة، والشعوب للأسف. وتطوّرت المركزيّة الغربيّة بأبعادها الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة لتكون خادماً لاستراتيجيّة الهيمنة وأحاديّة القطب، وكادت تجلّيات المركزيّة الغربيّة تكون قدراً، وقد ساعد على ذلك في هذه المنطقة من العالم تغوّل أثر البترودولار في الثقافة والسّياسة والإعلام والمأجوريّة والعمالة لاستراتيجيّات هذه الهيمنة.
فقد شهدت العقود الثلاثة الماضية جرّاء هذا توسّعاً للاستراتيجيّات التقليديّة للمشروع الصهيوني بشكل واضح تماماً تجلّى في الإفادة من حربي الخليج الأولى والثانية، وفي انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة أوروبا الشرقيّة، وفي طروحات الشرق الأوسط الجديد، والفوضى البنّاءة، وصفقة القرن، واتفاقات الاستسلام والتطبيع وتوظيف الدبلوماسيّة الروحيّة الأبراهاميّة، وكان الأخطر هو مظاهر الإرهاب والتطرّف والتكفير التي بُني عليها ما سمّي بـ (الربيع العربي) الذي انعكس خطراً حقيقيّاً على العروبة والإسلام، وعلى القضيّة المركزيّة، وعلى المشروع والفكر القومي العربي.
نعم كان هذا توسعاً خطيراً في المشهد السياسي الإقليمي والدولي دفع بالأمريكان والصهاينة وبعملائهما إلى أن قولة بوش الأمس: ( من ليس معنا فهو ضدّنا) هي عين الحقيقة والواقع في زمن قولها وفي المستقبل ، ولم يكتفِ هؤلاء مع بوش الابن بهذا بل نظروا إلى أنّ المركزيّة الغربيّة صارت تحت قدم الأمريكان وحلفائهم الأقرب الصهاينة (بايدن:ليس من الضروري أن تكون يهوديّاً لتكون صهيونيّاً) فتحوّلت المركزيّة الغربيّة إلى مركزيّة أمريكيّة محضة وأوضح بوش الابن السبب وهو أنّ أوروبا شاخت وصارت قارّة عجوزاً مدشّناً بهذا ما يمكن أن يُسمى بمركزيّة المركزيّة الغربيّة، فلا يكفي أن تكون مفكّراً غربياً بل عليك أن تأتي لتُقيم وتنتج وتكون في خدمة مراكز الأبحاث الأمريكية.
بالمقابل، تغافلت بعض مراكز الأبحاث والثقافة والسياسة وصنع القرار في هذه المنطقة أكثر من غيرها، عن قيمة التوسّع المضاد والمناهض لذلك التوسع بأبعاده القطبيّة الأحاديّة والتحالف الصهيوأطلسي، وتجلّيات المركزيّة الغربيّة بخطابها الثقافي والسياسي والاقتصادي المرتبط بالظاهرة الاستعمارية وسياسات الهيمنة والتفرّد.
نعم في الثقافة – أكثر من غيرها – كانت الأبحاث كثيرة ومهمّة في دحض التوسّع المخاتل المستفيد من هذه المركزية التي دحضها مثقفو الغرب والشرق، ولعل من أهمّهم المفكر والمؤرّخ الألماني توماس جولد شتاين الذي أوضح أنماط إسهام مختلف حضارات الإنسانية في نمو شجرة المعرفة دون حصرها بالغرب، ومنهم أيضاً المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد – بغض النظر عن الخلاف حول دوره في أوسلو – الذي نقد الظاهرة الاستعماريّة المتخفّية في السرديات الأدبيّة والتاريخيّة والمستندة إلى نظريّات عرقية في كتابات المركزيّة الغربيّة والاستشراق داعياً إلى الانتقال من ثقافة المركزيّة الغربيّة إلى ثقافة عالميّة تعدديّة، مندداً بنظرية الخطاب الكولونيالي دون أن يخفي تأثّره بكتابات الفيلسوف الإيطالي الماركسي غرامشي وبمنهج البنيوي الفرنسي ميشيل فوكو، وقام متابعاً نهجه الباحث الإيراني في جامعة كولومبيا د.حميد دباشي بإصدار كتابه اللافت (مابعد الاستشراق: المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب) الذي ترجم إلى العربيّة منذ سنوات خمس… وكثير في هذا النسق مما بيّن، وتبيّن معه أنّ روّاد القطبيّة الأحاديّة والمركزيّة الغربيّة وأتباعهما لا يريدون أن يروا العالم ثقافيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً إلا كما يتطلّعون ويرغبون، وأنّ الشعوب الأخرى في العالم هي هامش لا ينطوي على أي قيمة أو حقوق أو فعل، ويجب دفعها إلى خارج التاريخ والمستقبل، وآية ذلك ما تنطوي عليه الصهيونيّة في كيان الاحتلال من ممارسات يقوّض أهدافها التوسّع المضاد في محور مقاومة مشروعها، وخير دليل عمليّتا المقاومة مؤخراً في القدس وطولكرم، وفشل بايدن في قمة جدة، والمنعكسات السلبيّة لزيارة بيلوسي إلى تايوان… وصولاً إلى ما طرحه الرئيس بوتين أمس: (على الغرب أن يعي أنّ زمن أحاديّة القطب قد انتهى).
إنّ منصّات البترودولار التي تعمل على إقناع شعوب المنطقة بقوّة مركزية الغرب والتحالف الصهيوأمريكي على حساب صمود محور المقاومة، تتجاهل أنّ قناعة الشعوب بحقوقها وأصالتها وقيمها الروحيّة والماديّة أكثر رسوخاً وديمومةً من الناجم عن إقناع الأنظمة بالتسليم بهذه الحقوق والقيم، وأنّ التوسّع الطارىء للمشروع الصهيوني هو مؤقتٌ، بينما توسّع المشروع المقاوم المضاد له هو الدائم، وأنّ الضربات التي يتلقاها محور المقاومة صامداً لن تدفع إلى الخوف واليأس، بل تزيده حضوراً في الوجدان وفي الزمان والمكان، وبهذا تكون القيم سلاحاً أقوى من القذائف، وتكون (كلفة المقاومة أقلّ من كلفة الاستسلام).