دراساتصحيفة البعث

زيارة بيلوسي والحفرة الأمريكية الجديدة

 شادي العاني 

قالت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي خلال زيارتها “المفخخة” إلى تايوان: “إن العالم اليوم يواجه خياراً بين الديمقراطية والاستبداد”. ولكن عن أي عالم تتحدث بيلوسي؟!.

إن العالم في المنظور الأمريكي الذي تراه واشنطن من نافذتها العلوية الخاصة يختلف كلياً عن العالم الحقيقي الذي ترنو إليه أنظار الشعوب التي تسعى إلى الحرية والتخلص من الاستبداد الأمريكي، وربما قالت بيلوسي الحقيقة دون أن تقصد، فالعالم اليوم يواجه بالفعل خياراً بين الديمقراطية الدولية، وسيادة القرار الدولي وحريته من جهة، وبين الاستبداد الدولي الأمريكي من جهة ثانية، وليس كما قصدت بيلوسي بالطبع.

وعندما تتحدث بيلوسي عن الاستبداد فهي تغمض عينيها عن حجم الاستبداد الدولي الذي تمارسه بلادها ليس فقط على قرار الشعوب الحرة والآمنة، بل على مقدراتها أيضاً.

ومع الأخذ بعين الاعتبار أن بيلوسي في هذا المشهد الخارج عن النص لا تمثل نفسها وإنما تمثل السياسة الأمريكية، تلك السياسة التي تصر بأفعالها وبسلوكها الدولي البغيض على فعل كل ما يناقض ما تقوله وتتشدق فيه، وعلى السعي لزعزعة استقرار العالم، فإنه ليس من المستغرب أبداً اختيار بيلوسي تحديداً لهذه المهمة التي لا هدف لها سوى استفزاز الصين وفي هذا التوقيت بالذات إذ أن بيلوسي معروفة بعدائها للصين منذ عقود.

وليس فقط على المستوى السياسي، فحتى صحيفة “الغارديان” البريطانية الحليفة لواشنطن، اعتبرت أن التحرّك الذي قامت به بيلوسي من شأنه أن يخلّف عواقب وخيمة على المستوى الاقتصادي، وأن الاقتصاد العالمي سيكون أكبر المتأثرين بتلك الزيارة، وأنه وعلى الرغم من محاولة الأسواق احتواء انعكاسات ذلك عليها، إلا أن الصين سيكون لديها ردٌ آخر، فالرئيس الصيني شي جين بينغ يملك أسلحة اقتصادية ومالية تحت تصرفه، وقد يختار استخدامها بدلاً من الرد السياسي المباشر، والصين يمكن أن تعرقل عمل الشركات الأميركية الراغبة بالوصول إلى أسواقها، على سبيل المثال شركة “بوينغ” التي تنتظر السماح باستئناف مبيعات طائرات ماكس 737.

في العام 1995 نشبت أزمة مضيق تايوان بعدما أرسلت الولايات المتحدة مجموعتين من حاملات الطائرات بذريعة تقديم الحماية لتايوان التي يبلغ عدد سكانها 23 مليون نسمة، واليوم وخلال زيارة بيلوسي إلى تايوان لم تتحرك المقاتلات الأميركية والقطع العسكرية المرافقة لها لاستعراض القوة وحسب، بل كان هذا التحرك تمهيداً لعهد جديد في العلاقة مع آسيا، إلا أن الأميركيين “يلعبون بالنار وسيهلكون بها”، ليس حسب وصف الخارجية الصينية فقط، وإنما كنتيجة منطقية للسياسات الأمريكية الاستفزازية المتهورة.

هناك آراء وقراءات في الصحافة الأمريكية تقول إن الولايات المتحدة أرادت من خلال إرسال بيلوسي قطع الطريق على مطامع الصين، قبل أن تتطور أكثر، فمواجهة التنين وهو نائم أفضل من انتظاره حتى يستيقظ، لكن أصحاب هذه القراءات يبدو أنهم هم أنفسهم مازالوا مستغرقين في نوم عميق، ولمّا يستيقظوا بعد ليروا المشهد الجديد للخارطة السياسية الدولية التي باتت الصين اليوم واحدة من أقوى أقطابها.

هل كانت زيارة بيلوسي لتايوان حاجة ماسة للولايات المتحدة لاسيما وأن نظاماً عالمياً جديداً قد نشأ بالفعل؟ فللصين دور محوري في النظام العالمي الجديد، ويبدو أن واشنطن تحاول دون جدوى الإسراع بضبطه، خاصة وأن الصين على أبواب تدشين مشروع “الحزام والطريق” والذي هو أكبر مشروع اقتصادي في التاريخ، حيث  يشمل 150 كياناً سياسياً حول العالم، والذي يقول الخبراء عنه  إن بمجرد إطلاق هذا المشروع فإن قرابة مئتي منظمة دولية جميعها ستدور في فلك الصين، وكلّها ستتعامل مع بنك الاستثمار الآسيوي الذي تخشى الولايات المتحدة أن يحلّ محل صندوق النقد الدولي، ويضربون مثلاً على ذلك بما أعلنته الصين مؤخراً من أنها ستقدّم لكل من باكستان وسيريلانكا قروضاً بحوالي 26 مليار دولار. بالإضافة إلى عوامل عديدة تخيف الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب ليس آخرها تأسيس الصين لمنظمة “شنغهاي” في مواجهة مجموعة السبع بقيادة الولايات المتحدة.

ظلّت بيلوسي صديقة الدالاي لاما، طيلة العقود الماضية أكثر أعداء الصين في الولايات المتحدة، وكانت من بين من أصروا على استصدار الولايات المتحدة السنة الماضية لوثيقة لصالح الإيغور، متظاهرةً بدعم الشعب المسلم على الأراضي الصينية، متناسيةً الشعب المسلم الذي قتلته بلادها في أفغانستان والعراق، ومتجاهلةً الشعب المسلم الآخر في سورية الذي يبرد ويمرض بسبب نهب بلادها لثرواته وخيراته ونفطه، وبسبب سياسات بلادها التي دعمت الإرهاب، وبسبب الإجراءات الأحادية الجانب التي تحرمه من الغذاء والدواء والدفء.

يقول المثل الإنكليزي: “عندما تجد نفسك في حفرة فتوقف عن الحفر” وهذا ما لا تريد أن تفعله الولايات المتحدة بإصرارها على سياساتها الحمقاء والاستفزازية سواء في تايوان أو في أوكرانيا أو غيرها من بؤر التوتر التي تختلقها واشنطن هنا وهناك،  متوهمةً أنها تخدم مصلحتها من خلال تلك البؤر، فها هي الحفرة الأمريكية  التي حفرتها لروسيا في أوكرانيا قد أوقعت نفسها وأوقعت حلفاءها الأوروبيين فيها بدلاً من أن توقع روسيا، ويبدو أن هذا ما سيحدث مع تايوان ومع حلفاء أميركا الآسيويين.  فالولايات المتحدة تجهل أو تتجاهل الارتدادات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية لهذه الحفرة التي ستؤدي دون شك إلى دفن مستقبل من حفرها، ودفن سياساته العمياء، ودفن استراتيجياته المتغطرسة في يوم لن يكون ببعيد على الإطلاق.