مجلة البعث الأسبوعية

بعد الجنون السياسي .. انتهى “الترحيب الحار” باللاجئين الأوكرانيين

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

واجهت أوروبا في العقد الماضي أكبر أزمة هجرة منذ الحرب العالمية الثانية، وتصاعدت حدتها بشكل كبير في خريف عام 2015، عندما ازداد تدفق اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين من شمال إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا إلى الاتحاد الأوروبي بشكل كبير الذي لم يكن مستعداً لاستقبالهم.

تناقلت وسائل الإعلام الأوروبية في عام 2021 قصة الحدود البحرية بين المغرب وإسبانيا، والتي تدفق من خلالها آلاف اللاجئين غير الشرعيين من شمال إفريقيا إلى أوروبا على الرغم من المخاطر المميتة، وقد تم تفسير ذروة تدفق الهجرة تلك على أنها نتيجة التوتر بين إسبانيا والمغرب، نتيجة دعم مدريد لجبهة “البوليساريو” التي تقاتل من أجل استقلال الصحراء الغربية عن المغرب، حيث أشارت صحيفة “الإيكونوميست” إلى أن المغرب تستخدم الهجرة كسلاح.

لم تكن الجيوب الإسبانية وحدها التي شهدت تدفقاً هائلاً للاجئين من أفريقيا، بل كانت قوافل القوارب المتهالكة تنقل الأفارقة من تونس إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، حيث  توفي أو فُقد أكثر من 17000 لاجئ في مياه البحر الأبيض المتوسط  وهم ​​في طريقهم إلى أوروبا بين عامي 2015 و 2020 ، وفقاً للأمم المتحدة.

لو تم استقبال هؤلاء اللاجئين  ومساعدتهم من قبل الأوروبيين لما تدهور الوضع منذ أواخر شباط من هذا العام، بسبب التدفق الهائل للاجئين من أوكرانيا، والتي أصبحت نقطة انطلاق للغرب لتنفيذ سياسته المعادية للروس، وإطلاق العنان لصراع مسلح مع روسيا. لقد تم استقبال مئات الآلاف من اللاجئين الأوائل الفارين من أوكرانيا في دول الاتحاد الأوروبي، كجزء من موقفهم المعادي لروسيا، على عكس استقبالهم  للمهاجرين القادمين من الشرق الأوسط وأفريقيا الذين لم يتلقوا أي ترحيب بهم ، مما يدل بوضوح على وجود العنصرية في أوروبا، وقد تم تأكيد هذا الموقف المتغير تجاه الموجة “الأوروبية” الجديدة من المهاجرين بشكل واضح للصحفيين في نهاية شهر شباط من هذا العام من قبل رئيس الوزراء البلغاري السابق كيريل بيتكوف، حيث قال :”هؤلاء اللاجئون ليسوا اللاجئين الذين اعتدنا عليهم … إنهم أوروبيين… وهم أذكياء… وموجة اللاجئين هذه  ليست التي اعتدنا عليها، أناس لم نكن متأكدين من هويتهم ، أناس ماضيهم غير واضح، و يمكن أن يكونوا إرهابيين … بعبارة أخرى، ليس هناك أي دولة أوروبية الآن تخشى الموجة الحالية من اللاجئين”.

وعلق أحد الصحفيين على كلام  رئيس الوزراء البلغاري السابق، قائلاً لشبكة “سي بي سي” إن خطاب السياسي البلغاري احتوى على مزيج من العنصرية والكراهية، فاللاجئ هو لاجئ، سواء كان أوروبياً  أو أفريقياً أو آسيوياً.  ومع ذلك، لا يبدو أن السلطات الأوروبية  لديها نفس التفكير، مما يدل على الاختلاف في موقفها تجاه المهاجرين من أوكرانيا وإفريقيا و دول الشرق الأوسط. لقد انتقلت الدول التي أعربت في الماضي عن بعض أكثر الآراء تطرفاً وعداء للهجرة في كتلة الاتحاد الأوروبي، من استراتيجية “عدم السماح لأحد بالدخول” إلى استراتيجية “السماح للجميع بالدخول” ، فيما يتعلق باللاجئين القادمين من أوكرانيا. وفي هذا السياق، من المستحيل عدم التفكير في العنصرية المتجذرة في سياسة الهجرة الأوروبية، التي تتضح من خلال عدم المساواة في معاملة المهاجرين من مختلف البلدان.

لقد انتهى “الترحيب الحار” بالمهاجرين بسرعة كبيرة، خاصة بعد أن بدأت دول الاتحاد الأوروبي في السجال حول كيفية تقاسم المسؤولية وتكاليف دعم اللاجئين الأوكرانيين، حيث بدأت ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى في فرض حظر على قبول اللاجئين من أوكرانيا، بسبب تجاوز الحصة المخصصة لأولئك الذين يمكنهم الحصول على مزايا الرعاية الاجتماعية.

وفي الوقت نفسه، أدى تدفق اللاجئين الأوكرانيين إلى زيادة كبيرة في البطالة في العديد من دول الاتحاد الأوروبي في شهر تموز الماضي، فوفقاً لوكالة “التوظيف الفيدرالية” الألمانية، يوجد الآن ما يقرب من 2.5 مليون عاطل عن العمل في البلاد  بزيادة 107000 عن شهر حزيران الماضي. وفي غضون ذلك، يشير الخبراء إلى أن الدعم المقدم للاجئين الأوكرانيين في أوروبا ككل قد انخفض مؤخراً. وفي ذات السياق، صرحت العديد من دول الاتحاد الأوروبي اليوم أنها غير مستعدة لقبول اللاجئين من أوكرانيا، وأن البرنامج الإنساني، الذي وفر الإقامة للأوكرانيين في الفنادق والمناطق السياحية أو الترفيهية، قد انتهى.

يظهر الجدل الحالي حول مسألة اللجوء أن قرارات الترحيب باللاجئين الأوكرانيين بحرارة في أوروبا كانت في لحظة  جنون سياسي، واتخذت قبل كل شيء بتعليمات من واشنطن لدعم أوكرانيا، والضغط على روسيا بفرض عقوبات عليها. كما يظهر في الوقت نفسه، عدم التفكير بما سيكون وضع المساعدة على المدى الطويل، كما لم يتم التفكير منذ البداية في من يمكن اعتبارهم لاجئين من أوكرانيا، نظراً لأن للأوكرانيين الحق في دخول أراضي الاتحاد الأوروبي ومغادرتها بحرية. ولم يتوقع أحد في الاتحاد الأوروبي أن الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً لمساعدة أوكرانيا، معتقدين أنه سيكون إجراءً لمرة واحدة و سينتهي بسرعة عندما تنهار روسيا تحت ضغط العقوبات الغربية، وسيعود اللاجئون إلى ديارهم منتصرين.

توقع سياسيو الاتحاد الأوروبي والدول التي استقبلت لاجئين أوكرانيين أن يُنظر إليهم على أنهم منقذون، لا سيما في الموجة الحالية من ما يسمى “رهاب روسيا” التي أطلقتها الولايات المتحدة، إلا أن الوضع أخذ مساراً مختلفاً تماماً، ونتيجة لذلك حصل “المنقذون” على عبء إضافي لا يمكن تحمله، ولا يحتاجون إليه في ظل الظروف الحالية للأزمة الاقتصادية العالمية.

وفي ظل هذه الظروف، فإن “الاكتظاظ السكاني” في أوروبا من قبل الأوكرانيين قد هدد بالفعل البلدان الأوروبية نفسها بانفجارات اجتماعية واقتصادية، بالإضافة إلى ذلك، هناك وعي متزايد في أوروبا بأن تدفق اللاجئين الأوكرانيين يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الوضع الإجرامي في الاتحاد الأوروبي، حيث يفر أولئك الذين كانوا أعضاء في مختلف التشكيلات النازية، ومنظمات قطاع الطرق في أوكرانيا من مناطق الصراع، وحيثما يظهرون، يتم إنشاء قنوات لإرسال الأسلحة إلى  ميدان  الحرب، بما في ذلك الأسلحة غربية الصنع. ومع ذلك، طالما أن الولايات المتحدة تتحكم بالاتحاد الأوروبي، فمن غير المرجح أن يحدث تغيير كبير في سياسة اللاجئين الأوروبية، لأن واشنطن تستغل أوروبا وتستهلكها متى شاءت وبالقدر الذي تريده.

سيستمر المسؤولون الأوروبيون المنصاعون لأمريكا في شراء الأسلحة الأمريكية بأموال أوروبية لتسليمها إلى أوكرانيا أو إلى مناطق أخرى من الصراع المسلح لصالح الولايات المتحدة، مما يحافظ على التدفقات المتزايدة للمهاجرين غير الشرعيين بسبب ذلك، وسوف تستمر التناقضات الاجتماعية والاقتصادية المنتشرة في الاتحاد الأوروبي بسبب استخدام  مثل هذه السياسات من قبل واشنطن من أجل استبدال الممثلين السياسيين غير المرغوب فيهم في أوروبا بدمى جديدة.