حنونة الدراما السورية في قلب الله
سلوى عباس
في زمن طغى عليه الصخب والضجيج، يغادرنا عمالقة زمن الدهشة والحلم، عمالقة تنضح ملامحهم بشفافيّة الروح والإحساس الجميل الذي كنّا نعيشه مع إبداعاتهم، وانطوانيت نجيب التي لململت أمس آخر عبقها ورحلت تنتمي لجيل الرواد، إذ قضت 60 عاماً من عمرها في الفن، بدأتها مع فيلم “عاريات بلا خطيئة” عام 1967، وراكمت بعدها في مسيرتها الفنية رصيداً غنياً بالأدوار التي تميّزت بها، ولاسيما تجسيدها دور الأم الحنون والمرأة الطيبة البسيطة.
تاريخ فني طويل خطّته أنطوانيت نجيب مع كثيرات غيرها في سفر الدراما السورية بدأ منذ ستينيات القرن الماضي، حيث كانت من رائدات الدراما اللواتي قدّمن الكثير من التضحيات حتى أوصلنها إلى هذه المكانة الراقية، فقد حوربن كثيراً حيث لم يكن الفن مقبولاً في ذلك الزمن، ومع ذلك لم يستسلمن وتابعن مشوارهن حتى حقّقن رسالتهن، وأثبتن وجودهن، لذلك يمثلن إلى جانب الفنانين المواكبين لهن في هذا التاريخ الرافعة الفنية والفكرية للدراما ماضياً وحاضراً، من خلال مشاركاتهم التي لا تزال حاضرة تجذبُ الكثير من المشاهدين لمتابعة عمل ما لمجرد مشاركة أحدهم فيه، حيث قدّم القائمون على صناعة الدراما آنذاك أعمالاً درامية جدية وجريئة من حيث المضمون والمعالجة، بسبب امتلاكهم لمشروعهم التنويري والفني والإبداعي.
لقد شكّلت حياة الراحلة الفنية مساحة كبيرة من المحبة والمودة مع الجمهور والكاميرا، حيث عايشناها في الكثير من أدوارها المتميّزة، فكانت المبدعة والحالمة بأن ترتقي بهذا الإبداع إلى المستوى الذي يليق بها كفنانة سورية، وكان لها ما رغبت، حيث تناغمت رسالتها الفنية مع رسالتها الإنسانية عبر مساهمتها في رسم البسمة على وجوه كثير من الناس الذين قست عليهم الحياة، فنانة آمنت أن الفن ليس ترفيهاً ولا متعة بلا فائدة، وإنما توجيه وتربية وشيء له علاقة بحياة الإنسان والمجتمع معاً، لذلك ركزت اهتمامها في خياراتها الفنية على قضايا الناس ومشكلاتهم، وكانت ترفض الأعمال التي تقتصر في مضمونها على الفرجة أو المتعة فقط. وعن شخصية “نعيمة” التي قدّمتها في مسلسل “الفصول الأربعة”، هذه الشخصية الراسخة في ذاكرة المشاهدين تقول نجيب: “هذه الشخصية واقعية لسيدة كانت تعيش في منزلهم، قامت بحفظ تفاصيلها لتؤديها على هذا النحو، ما ساعد في وصولها لقلوب الجمهور”.
لم يشغل بال فنانتنا تقدّمها في العمر ولا خطوط التجاعيد على وجهها، بل كثيراً ماصرحت أن “أجمل ما في مرحلتها العمرية محبة العالم لها التي تأخذ بالتزايد أكثر مما كانت عليه أيام صباها، وأن العمر بالنسبة لها لا يشكّل أي إزعاج وخطوط الزمن على وجهها مصدر إعجاب لها فهي تعدّها وتحفظها”، وترى أن المطلوب في الفن هو الموهبة التي تشبه الجوهرة الخام غير المصقولة، وعند صقلها يظهر لمعانها وتعبّر عن نفسها، وهكذا الفنان عندما يعطي موهبته تظهر الجوهرة التي بداخله، إذ قدّمت خلال مسيرتها الفنية الطويلة عشرات الأعمال الفنية في التلفزيون والسينما والمسرح.
حنونة الدراما السورية الطيبة اللقب الذي أطلقه الفنانون السوريون من كلّ الأجيال على الراحلة أنطوانيت نجيب بتاريخها الفني الحافل الذي بدأته بنجومية عبر أدوار أدتها في دراما الأبيض والأسود، وصولاً إلى آخر الأعمال التي استمرت حتى آخر لحظة من حياتها، ستبقى غيمة عطر تمطر حباً على قلوب جمهور أحبها، وستبقى هي ومن رافقها في مسيرتها الدرامية شاهداً على جمالية زمن مضى، وضميراً للدراما السورية.. لروحك الرحمة وكلّ السلام والعزاء لأهلكِ ومحبيكِ.