ما وراء العقيدة البحرية الروسية وميثاق الأسطول العسكري؟
البعث الأسبوعية- ريا خوري
منذ العقد الماضي، باتت روسيا الاتحادية أحد أهم القوى الفاعلة على الأرض عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، ومع كل يوم تثبت أنها الأقدر والأكفأ على حماية مصالحها وأمنها القومي الاستراتيجي. ففي الفترة الأخيرة، ونتيجة سخونة الأوضاع السياسية والعسكرية والأمنية وارتداداتها على الصعيد الاقتصادي العالمي، تقدمت روسيا خطوة جديدة على طريق تثبيت مشروعها الاستراتيجي، خاصة في هذه الفترة التي تمر بها العلاقات الروسية الأمريكية بأسوأ حالاتها منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وانتهاء الحرب الباردة، فقد وقَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أواخر شهر تموز الماضي على مرسومين حول إقرار العقيدة البحرية الروسية، وميثاق الأسطول العسكري الروسي.
هذا التغيير النوعي في العقيدة البحرية الروسية حمل العديد من القضايا الهامة التي برزت بشكلٍ واضح وجلي، ومنها أنها تعبير صريح عن المسافة الفاصلة بين روسيا والغرب الأوروبي بشكلٍ عام، والولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ خاص .فبعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق في 26 كانون الأول من العام 1991 عقب إصدار مجلس السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي الإعلان رقم (H-142) والذي أُعلِن فيه الاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة، وإنشاء رابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد السوفيتي، وانفراط عقد “حلف وارسو” بعد عام 1991، تغيرت العلاقات بين روسيا الاتحادية وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، من حالة المجابهة والتحدي المستمر إلى نوع من الشراكة، خاصة في أعقاب انضمام روسيا الاتحادية في عام 1994 إلى برنامج “الشراكة من أجل السلام”، حيث وقع حلف شمال الأطلسي وروسيا الاتحادية منذ ذلك الوقت عدة اتفاقيات هامة فيما يخص التعاون بين الطرفين.
لكن هذه الشراكة لم تدم طويلاً بعد أن حنث حلف شمال الأطلسي بوعود كان قد قدمها لآخر رئيس للاتحاد السوفييتي غورباتشوف تقضي بعدم تمدد الحلف شرقاً، حيث اقتربت حدود الناتو كثيراً من حدود الاتحاد الروسي في عام 1999 نتيجة انضمام العديد من الدول التي كانت ضمن “حلف وارسو” مثل المجر والتشيك وبولندا، واستمرار العمل من قبل الحلف بعد نحو خمس سنوات على ضم عدد جديد من الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي السابق والمنضمة إلى “حلف وارسو” مثل إستونيا وليتوانيا ولاتفيا، إضافة إلى بلغاريا وسلوفينيا ورومانيا وسلوفاكيا.
وعلى الرغم من هذا التمدد، حافظت روسيا الاتحادية على رغبتها في الشراكة مع الناتو، ففي عام 2010، اتفق قادة الحلف بقمة في العاصمة البرتغالية لشبونة على وثيقة رئيسية تحدد رؤية الحلف ومستقبله، اعتبرت بموجبها روسيا الاتحادية شريكاً استراتيجياً في خطوة أولية تهدف لبناء شراكة طويلة الأمد، إلا أن تمدد الحلف شرقاً أو المخططات العدائية التي رسمها الأوروبي تجاه روسيا لم تتوقف، ولاسيما مع مساعي أوكرانيا للانضمام إلى الناتو، الأمر الذي اعتبرته روسيا خطاً أحمراً لا يمكن تجاهله، خاصةً أن العلاقات بين دول الناتو وروسيا الاتحادية كانت قد وصلت إلى طريق شبه مسدود في عام 2014 عندما استعادت روسيا شبه جزيرة القرم، حيث قررت الدول الأعضاء في الناتو بالإجماع تعليق التعاون في المجالين العسكري والمدني مع روسيا، ما دفع بعلاقات الطرفين نحو الهاوية مع اندلاع شرارة الحرب الأوكرانية الساخنة التي لاتزال نيرانها مشتعلة حتى الآن، وتنذر باحتمال توسعها لتشمل مناطق جديدة .
هذه التطورات المتسارعة أجبرت روسيا الاتحادية على إعادة التفكير من جديد ليس في علاقاتها مع الغرب الأوروبي – الأمريكي وحسب، وإنما في تغيير عقيدتها البحرية العسكرية، بعد أن اعتبر الناتو أن روسيا الاتحادية تمثل التهديد المباشر والأهم لأمن الحلفاء والسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية، ما يعني تغييراً جديداً وكبيراً في قواعد اللعبة بين روسيا والغرب .
من هنا نلاحظ بشكل واضح ما تضمنته العقيدة العسكرية البحرية الجديدة لروسيا من نقاط تمثل تحولاً كبيراً في السياسة الروسية تجاه الغرب الأوروبي عامةً، والولايات المتحدة بشكل خاص، ومن هذه النقاط:
- اعتبار نهج الولايات المتحدة الأمريكية نحو السيطرة شبه المطلقة في المحيطات العالمية بمثابة تحدٍ رئيسي للأمن القومي والأمن الاستراتيجي لروسيا الاتحادية.
- ضرورة السعي الحثيث لتعزيز القدرات البحرية الروسية، خاصةً أنه لا يوجد عدد كاف من نقاط التمركز والقواعد البحرية خارج حدود روسيا الاتحادية المخصصة لتموين وصيانة السفن التابعة للقوات البحرية الروسية.
- التأكيد على أن مضائق البلطيق والكوريل والبحر الأسود والجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط مهمة جداً لضمان الأمن القومي والاستراتيجي لروسيا، لذلك من الضروري العمل على تطوير مرافق الإنتاج وأحواض السفن لبناء سفن حاملة للطائرات حديثة جداً للقوات البحرية الروسية.
إن جميع الخبراء والمختصين في هذا المجال أكدوا أن ما أعلنته القيادة الروسية حول العقيدة العسكرية البحرية تتقارب إلى حد كبير مع المذهب العسكري في حقبة الاتحاد السوفييتي السابق ومرتكزاته الاستراتيجية، على الرغم من أنها تمثل المعطيات الرئيسة لمذهب روسيا الاتحادية العسكري في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث أجبر الغرب الأوروبي – الأمريكي روسيا على تطويره ونقله من فكرة السعي للشراكة مع الغرب، إلى إطار التصدي المباشر للهيمنة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم.
كما أن المذهب العسكري الجديد الذي وضعته القيادة السياسية والعسكرية الروسية يركز على اعتماد استراتيجية الإعداد لحروب إقليمية قادمة، خلافاً لما كان في حقبة الاتحاد السوفييتي السابق، حيث كان الإعداد العسكري في تلك الحقبة يتم لمواجهة حروب عالمية، على رغم من أنه لم يُسقط مسألة الحرب النووية واستحقاقاتها واستطالاتها، بل أبقى على المنظور السوفييتي لها باعتبارها قد تكون امتداداً للحروب التقليدية المتبعة في عصرنا الحالي، وهو ما بدا واضحاً في استنفار روسيا لقوات الردع النووي، خلال الأزمة الأوكرانية التي لاتزال تفاعلاتها جارية على الأرض، كساحة نزال رئيسية بين روسيا الاتحادية والغرب الأوروبي- الأمريكي.
الجدير بالذكر أنّ العقيدة البحرية العسكرية الجديدة لروسيا، لا تعني أن العالم سيغرق قريباً في أتون حرب عالمية ثالثة مدمرة، لأن كلفة مثل هذه الحرب ستكون كارثية على الجميع دون استثناء، لكنها بكل تأكيد ستعمل على إنهاء الهيمنة الأمريكية على العالم وستساهم في خلق نظام عالمي جديد تقوده عدة دول .