هل الرواية فن الزمان أم المكان
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
يحلو لبعض الدارسين أن يصنفوا الفنون بين زمانية ومكانية، فما لازم منها الزمن والتزم به سُمي فناً زمانياً، كالشعر والموسيقا، وما لازم منها المكان سمي فناً مكانياً كفنون العمارة والتشكيل والبصريات بعامة.
وحدها الرواية تفرض حضوراً زمانياً ومكانياً، فهي لاتكون إلا في فسحة واسعة من الزمن قد تمتد عقوداً من السنين، وهي لا تستوي طيعة لينة إلا في متسع مكاني يحتمل مجريات أحداثها العريضة وتفرعاتها الجانبية ويمدها بالتفاصيل الموحية والأركان والزوايا التي غالباً ماتكون غنية بالكثير من الأحداث والوقائع والشخوص. فالرواية فن الزمان لأنها تستطيع أن تسترجع شطراً كبيراً من حياة جماعية أو فئة أو ربما أمة من الأمم، وهي باختراقها حواجز الزمن بين حاضر يكاد ينفلت إلى ماض وبين ماض يوشك أن يتداخل مع المستقبل أو يطغى عليه، حين تفعل الرواية ذلك فإنها وحدها التي تستطيع أن تخرج من هذه اللعبة الخطرة سالمة معافاة، وقد حملت الكثير من العظات والعبر والمواقف التي يراها المرء تكاد تتجسد حقيقة راهنة أو وشيكة التحقق بما يؤثر سلباً أو إيجاباً في حياة القارئ الذي قد يكون فرداً أو أفراداً وربما صار جيلاً أو أجيالاً متتالية من القراء، وقد حصل ذلك على الأقل لبعض من من قرؤوا بعض فريد هذا الفن الأدبي الرفيع كقصة مدينتين أو الحرب والسلام أو ذهب مع الريح، ولعلنا واجدون في التاريخ المبكر الذي يكاد يكون مغفلاً أو منسياً إلا لعدد من المهتمين، شواهد أكثر دلالة وأكثر عمقاً، وذلك حين ترجع بنا الذاكرة إلى البدايات البكر، البدايات التي أرهصت لهذا الفن الملحمي، فن الرواية المعاصرة، كما في فريدة النثر الأدبي العربي “ألف ليلة وليلة” وقبلها تلك التحفة الإبداعية التي لاتزال تدهش دارسي الأدب في العالم، ونعني بها مايسمى الرواية المبكرة أو الأب الشرعي للرواية وهي ماكتبها الأديب السوري لوقيانوس السميسطائي تحت عنوان “قصة حقيقية”.
والرواية فن المكان هذا لا يعني أن لا رواية حيث لا مكان، فثمة أدلة وشواهد على أن روايات كثيرة لم تشأ أن يكون لها مكان محدد أو أنها افترضت لنفسها مكاناً لاوجود حقيقياً له، مع ذلك تظل القاعدة هي الأهم، والاستثناء حالة عرضية لايقاس عليها، وإذا كان المكان ليس حقيقياً دائماً، فعلينا ألا ننسى أنه لايعدو في نهاية الأمر كونه عنصراً فنياً من عناصر العمل الروائي كالحدث والشخصية…الخ وهو بالتالي محكوم بالشروط الواجب مراعاتها في العمل الفني بمواصفاته التي لا راد لسلطانها.
في الندوة الأدبية التي بثتها إحدى الفضائيات العربية بعنوان: هل الرواية فن الزمان أم المكان خضع المشاركون في الندوة للشرط الفني للرواية وللرأي الموضوعي والرؤية العفوية الصادرة عفو الخاطر عن مبدعها مباشرة، وقد بدا واضحاً أن معدي الندوة لم يحددوا لها إطاراً ضيقاً، أو أن يلزموا المنتدين بمسار محدد، بل تركوا لهم المجال أن يساهموا بالمحور الذي يريدون، مما فتح أفاقاً عديدة للحوار والمناقشة وقد اختلفت الآراء وتباينت وهذا أمر إيجابي، فما الحضارة إلا اختلاف في الرأي، وهو الاختلاف الذي لايفسد للود قضية..
كذلك أتيح للمشاركين في الندوة أن يتناولوا موضوعات الزمان والمكان، التاريخ القريب أو الذاكرة المستعادة، والتاريخ البعيد أو الذاكرة الجمعية، ووجدنا أن الروايات يمكن أن تصنف في أنواع أو زمر، وتركوا لشاهد من هنا أن يتجاور مع شاهد من هناك، ويمكن لهذه الندوة وغيرها من الندوات أن تكون الحصاة التي ترمى في عمق البثر أو البحيرة لترتسم بعد ذلك عشرات الدوائر وتنشأ الحوارات والمساجلات حولها.