الولايات المتحدة.. أسلوب متهور في زمن الانحدار
عناية ناصر
رأى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في مقابلة نشرت مؤخراً في صحيفة “وول ستريت جورنال” أن عالم اليوم يقترب من اختلال توازن خطير، وأن الولايات المتحدة على حافة الحرب مع روسيا والصين بشأن قضايا نحن مسؤولون جزئيا عن ظهورها، دون أي إدراك لكيفية نهايتها أو إلى أين يمكن أن تؤدي”.
يعتبر كيسنجر الخبير في ميزان القوى، أن استقرار العالم يعتمد على توازن القوى، و على التوازن بين القدرات والأهداف، لكنه يعتقد الآن أن الولايات المتحدة قد كسرت هذا التوازن المناسب، والعالم على وشك الحرب، ويعود الفضل في ذلك في المقام الأول إلى حقيقة أن الولايات المتحدة عالقة في خوف استراتيجي وصراع سياسي شرس.
لقد فقدت واشنطن عقلانيتها، كما تخلت أوروبا عن استقرارها، بسبب توسع الناتو الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة باتجاه الشرق. الآن، تثير الولايات المتحدة الاضطرابات بشأن قضية تايوان، وتسلب السلام والاستقرار والتكامل الذي تريده الدول الآسيوية، وهدف واشنطن خلق وضع غير متوازن يناسب الولايات المتحدة، وبذلك تتمكن من الحفاظ على هيمنتها بسبب عدم التوازن عالمياً على المدى الطويل.
ومن خلال عملية الحفاظ على هيمنتها، تنظر الولايات المتحدة إلى جميع البلدان على أنها مجرد بيادق لها، وعند الحاجة لها، سيتم استخراج البيادق لقيمتها وللدور الذي ستؤديه، وعندما تصبح عديمة الجدوى، سيتم التخلي عنها أو التضحية بها.
تقع القارة الأوروبية الآسيوية في مركز رقعة الشطرنج الأمريكية المهيمنة، ولذلك لا يريد صانعو السياسة الإستراتيجية في الولايات المتحدة التنافس مع الصين وروسيا فحسب، بل يريدون أيضاً أن يصبحوا الحكم السياسي الوحيد في أراضي أوراسيا، ومنع ظهور أي قوة منافسة تهدد المصالح المادية والدبلوماسية للولايات المتحدة، وفقاً للخبير الجيواستراتيجي الشهير زبيغنيو بريجنسكي في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى”.
لذلك تنتهج الولايات المتحدة سياسة حافة الهاوية، وهي تعتقد أنه يمكنها مشاهدة النار من بعيد، والانخراط بمرونة حالما تريد التدخل، وتأمل في السيطرة على البؤر الساخنة أو الأزمات من خلال الحروب بالوكالة والاستفادة منها. وبهذا تقوم الولايات المتحدة بلعبة خطيرة لا تستطيع تجنبها، فالولايات المتحدة في الوقت الحالي، بالكاد تستطيع إصلاح مشاكلها في الداخل، فكيف يمكنها التأكد من أن سياسة حافة الهاوية لن تؤدي إلى حرب حقيقية؟.
ومن أجل الحفاظ على موقعها المهيمن في العالم، لا تدخر الولايات المتحدة أي جهد لمنع أي منافس محتمل في أوراسيا من تحدي موقعها المهيمن في الشؤون الأوروبية الآسيوية. و نتيجة لذلك، تواصل الحفاظ على نظام من التحالفات العسكرية الثنائية ومتعددة الأطراف، وتشكيل المجموعات والخداع، وتعزيز سيطرتها على أوراسيا وحتى العالم. أما بالنسبة للمخاطر والكوارث التي سيحدثها هذا الاختيار للعالم، هو ببساطة لا يعني أي شيء بالنسبة للولايات المتحدة.
في الوقت الحاضر، تعتقد الولايات المتحدة أن الصين وروسيا تشكلان تحدياً لهيمنتها على القارة الأوراسية، حيث تعتبر مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وإستراتيجية الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى لروسيا بمثابة تهديدات للولايات المتحدة، وهي لن تسمح بذلك، ولهذا هي غير مرتاحة تماماً، وتستخدم كل الوسائل الممكنة لعرقلة العلاقات بين البلدين.
لكن، إذا استمرت الولايات المتحدة في أسلوبها المتهور في زمن الانحدار، وتمسكت بعقلية عفا عليها الزمن وسط حقبة من التغيرات الكبيرة، فلن يكون لها دور ريادي إيجابي في العالم، بل على العكس من ذلك ، قد يقود العالم إلى الهاوية.