في ذكراه.. أروي!
حسن حميد
1
الخليل/ ليلاً..
قال لي: قم وخذني إلى المقبرة التي جرفت قبورها وأزاحتها الجرافاتُ الإسرائيلية، قلت له: نحن في منتصف الليل، عفواً نحن في ما بعد منتصف الليل! قال: دعني أرى المقبرة ليلاً، فأنا لا قدرة لي على مواجهتها نهاراً! كانت البلدية الإسرائيلية قد اتخذت قراراً بإزالة المقبرة، وإقامة حديقة في مكانها، فقمنا، بدا نشيطاً وحيوياً كعادته، وحين وصلنا إلى المقبرة بدا مثل فرس طرود يجول هنا وهناك في أرجاء المقبرة ويهمهم، يتحدث عن تاريخ المقبرة وسكانها الأعلام، ويقول: كانوا هنا هم الحديقة، وهذه الأشجار العالية العتيقة مثل الذهب، تؤكد هذا، وراح ينادي بعضهم ويسألهم لماذا لم يغضبوا، ولماذا لم يخرجوا عليهم بعظامهم المضيئة؟
كان الليل موحشاً، وكان هو طيّ غضبة لم توارَ إلا حين أخذ يدندن مطلعاً شعرياً، راح يردّده، فبدا موسيقا الليل التي هدّأت روحه رويداً رويداً.
2
عمان/ ليلاً..
قال لي: قم وخذني إلى الأغوار، خذني إلى أمين الأمّة أبي عبيدة بن الجراح. قلت له: الدنيا ليل، وبرد، والطريق موحشة لابدّ! قال: ولو، هل أنت خائف، إن رؤيتنا لأبي عبيدة مؤانسة ستزيل الوحشة، وحرارة اللقاء ستبدّد البرد! والمشي في الليل متعة لا تعد بها النهارات؛ فقمنا، وذهبنا، كان طوال الطريق يطرد بصره هنا وهناك في العتمة المطبقة، ويدعك كفيه، ويسأل، ألم نصل، أهكذا باتت الأغوار بعيدة! وحين وصلنا، شعّ القبر ببياضه، وحين تقدمنا أكثر، أبرق لون قماشه الأخضر، وتلامعت زجاجات الزيت، وتوهّجت القناديل. كنت أخمّن بأنه سيصرخ: بأننا جئنا إليك يا أمين الأمة لتقول لنا، وقد بتنا في وحدة مطلقة، ما العمل؟! لكنه لم يصرخ، ولم يقل شيئاً، إذ رأيته يجثو أمام القبر،على ركبتيه، ويحني رأسه المثقل بالكتب، ويبكي، وأنا أرجوه بأن الدنيا ليل، والحرّاس قربنا! لكنه ظلّ يبكي، حتى فرغ صدره من البكاء، تماماً مثل أسطوانة موسيقا لا تنتهي إلا عندما تضيء خواتيمها!.
3
بيروت/ ليلاً..
قال لي: قم ورافقني كي نزور غسان كنفاني، وأهل مقبرة المخيم. قلت: الدنيا ليل، وأنت آتٍ من سفر بعيد، وأراك منهكاً، قال: لابدّ من السّلام على من قال: كن نداً في حياتك، فالسّلام عليه راحة، قلت: الصّباح رباح! قال: أريد أن ارتاح، ولنأخذ القهوة معنا، ونشربها عنده. قلت: نشتري القهوة من مكان قريب من المقبرة. قال: لا، دعني أعدّ القهوة التي تليق بغسان، قلت: ولماذا تذهب إليه الآن، هل من ضرورة؟! قال: ضرورة.. وأكثر! وتعالت رائحة القهوة، مثلما تعالت قرقعة فناجين القهوة، قلت له: نأخذ أكواب بلاستيك، هي أخفّ حمولة! قال: وهل تُشرب القهوة بغير الفناجين البيض! سيدهش غسان، ويعاتبني لأنني غيّرت عادتي! وذهبنا! وهناك، وحالما جلس، قال: سلام على الشجر الحيّ، سلام على أخي الحيّ! وجثا ملاصقة قربه، وملأ فنجانه بالقهوة، وقال له: من دلّك عليّ لتسأل عني، ومن كان الدليل! وراح ينصتُ باهتمام، وأنا أنظر إليه، ثم قال، وهو يشرب من فنجان قهوته، ويردّد: أجل.. أجل، فلسطين، هي الدليل!.
4
باريس/ ليلاً..
قال لي، أنا لا أعرف المكان بالضبط، خذني إلى متحف الإنسان، أريد أن أرى سليمان الحلبي، ابن الزيات، ابن حلب، ابن عكا الذي عاش أبوه فيها، فذاع اسمه: الزيات الحلبي، الزيات الحلبي! قلت: لا قبر له هنا في باريس. قال: يكفي أن نرى رأسه في المتحف!. قلت: وخنجره الذي قتل به الجنرال كليبر، ولم يعلق! وصلنا المكان، كان فضاءً رحباً، والأشجار تحيط به، وعمال النظافة يعملون ويهمهمون، أما الأبواب فكانت مغلقة، قال غاضباً: متى يفهم هؤلاء، أن الليل حياة أيضاً! واستدار، فاستدرتُ خلفه، وقلت: هل كنت تريد أن تقول شيئاً لـ سليمان الحلبي. قال: وددت أن أسارره بأنني أحبّه مثلما أحبّ الزّيت!.
5
عكا/ ليلاً..
ذلك الليل كان ليل محمود درويش، وذلك الأرق كان أرق محمود درويش، والليلة، أنا، لا أدري ما الذي سأقوله له: إن قال لي: قم وخذني إلى البروة!.
Hasanhamid55@yahoo.com