المدّ والجزر والإبداع
عبد الكريم النّاعم
– لا علاقة لكلامنا بالمدّ والجزْر، كخاصيّة في حركة أمواج البحار، بل المقصود أزمنة المدّ التي هي أزمنة خصب وعطاء، وأزمنة الجزْر التي هي أزمنة تراجع لأسباب معقّدة، وتحتاج في مناقشتها إلى فكفكة.
– المقصود بالإبداع هو كلّ إنتاج ماديّ أو معنوي يشيع البهجة والفرح في نفس الإنسان، ويساعده على توسيع آفاقة المعرفيّة، ويساهم في تفتّحه الإنساني، وهذا يشمل الشعر والمسرح والرسم والنحت والموسيقا والرواية، والزخرفة في الأواني وفي الثياب، وكل ما يمكن أن يُلحَق بهذه المساحة، وهو إبداع روحي تحتاجه النفس البشرية احتياجها للغذاء المادي، ويؤكّد ذلك أنه ما من شعب مهما صغر أو كبر، ومهما كانت درجة تقدّمه أو تخلّفه إلاّ ونجد لديه شيئاً من ذلك الإبداع، يعبّر عن ذوقه، وعن نظرته إلى الكون والحياة، من مجاهل إفريقيا إلى أشْهر العواصم في العالم.
– في العصور الحديثة التي رافقت نهضة أوروبا شُغِل بعض الدارسين بالتنظير الموازي لتلك النهضة، وبحسب المدارس النقدية والأيديولوجية، بوظيفة الإبداع بعامّة، وبخصائصها، وبغاياتها، واختُلف فيها كثيراً بحسب المنطلق الرؤيوي الذي ينطلق منه المنظِّر، بيد أنّ الذي ساد ولفترة رافقت أزمنة ما سُمّي بالمدّ التقدمي الاشتراكي، انطلاقاً من رؤية ماركسيّة تحديداً، الذي ساد أنّ للإبداع دوراً توعويّاً، تربويّاً، يساعد على مدّ وقود الثورة، وكثيراً ما كان دور الإبداع استشرافيّاً بهذا الاتجاه، قبل الفلسفة الماركسية وبعدها، وبعض هذا الاستشراف يكاد يبلغ حدّ التّنبّؤ، ومَن يدقّق في قصائد مرحلة ما، سيجد الكثير من الومضات الاستشرافيّة، حتى ليكاد بعضها يشكّل رؤية مُصَوّرَة.
– الآن أصل إلى المرحلة التي نحن فيها، لنستقرئ بعض ملامحها، ولندقّق في دورها، وماذا عن المواكَبة، وعن القدرة على المساعدة للخروج من أزمة الجزْر الحرائقي التدميري، على جميع المستويات الإبداعية ثمّة أزمة حقيقية خطيرة، أشرت إليها في أكثر من مكان، وهي طغيان الغث، لاسيما في فضاء الشعر، وإذا كانت الساحة لا تخلو من شعراء حقيقيين على قلّتهم، فإنّ هذا لا يلغي طغيان الرديء، ولعلّ الجيد منها يحتفظ بالبذرة الأصيلة لقادمات الأيام، وعل مستوى المسرح أبو الفنون كما يقولون فثمة ركود، وليس من السهل أن نجد كاتباً مسرحياً بحجم سعد الله ونوس، وعبد الفتاح قلعجي، وفرحان بلبل وأمثالهم، وحتى لو وُجد فثمة متممات لذلك وهو أن يكون ثمة إقبال من الجمهور، رُوي أنّهم في أثينا القديمة كانوا يدفعون مبلغاً ولو رمزيّاً لمن يأتي لحضور المسرحيّة، وهذا كان في أثينا لا غير، فما الحال عندنا؟ وما نقوله هنا ينطبق على كلّ الفعاليات التي تحتاج لجمهور لاكتمال شرط فاعليّتها، والذي هو ذو شقين شقّ من يقدّم الإبداع، وشقّ الحضور، لتتحقّق الأهداف من ذلك النشاط، لأوّل وهلة يتبادر للذهن أنّ الإبداع بعامّة لا يجد كلّ شروطه إلاّ في ظروف مناسبة من الاطمئنان، والأمن، والكفاية، لأنّ القلِق لا يستطيع أن يكون متابعاً جيداً، ولا متفهّماً جيداً، وإذا حضر فإنه غائب مشغول بما يُقلقه من تأمين حاجيات الحياة، مَن يفكّر بكيف سيُدفئ أطفاله لا يستطيع أن يغادر ساحة ذلك القلق، مَن يكون مشغولاً بتأمين جرّة الغاز سيعجز عن السماع الصحيح للشعر أو للأداء المسرحي، بل هو لن يحضر أصلاً، وباعتبار أنّ هذه الظواهر وأخواتها، كما هو واضح، قد تطول أزمنتها، لأنّ الحلّ لا يبدو أنه قريب بسبب دوافع سياسية وأيديولوجيّة واحتلاليّة، وبسبب الأطماع في المنطقة، فإنّ هذا سيؤدّي إلى تراجع مخيف لأزمنة يصعب تقديرها، لذا لا بدّ من ابتكار حلول مناسبة للنجاة من ذلك الخطر.
aaalnaem@gmail.com