عن أردوغان وعودة العلاقة مع سورية
بسام هاشم
يجتهد المراقبون في تفسير الانقلابات الحادة التي تسجّلها السياسة الخارجية التركية، منذ فترة، والتي توّجت قبل أيام بالتصريحات التي أدلى بها متزعّم النظام التركي، المدعو أردوغان، بشأن إعادة العلاقة مع سورية. وبينما تدور بعض المقاربات في فلك الأزمة الاقتصادية المستفحلة في تركيا والتضخم المخيف والانهيار الحاصل في قيمة الليرة، وتشير أخرى إلى الانتخابات الرئاسية القادمة، والتراجع الهائل في شعبية أردوغان، وخاصة على خلفية ما يسمّى أزمة اللاجئين السوريين في تركيا، ولاجئين آخرين استقدمتهم الحكومات المتعاقبة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، بدوافع وخلفيات أيديولوجية إخوانية، إلا أن الجميع يتجاهل حقيقة أن المحرّك الأساس لكل هذا الانقلاب يكمن في حقيقة أن مشروع الحرب على سورية سجّل فشلاً ذريعاً، بل ألحقت به هزيمة نكراء، وأن مشروع الشرق الأوسط الجديد دُفن وسط كل هذا الركام، كما ذهبت هباءً الطموحاتُ التركية بتزعّم العالم الإسلامي، برعاية أصلية من عتاة المحافظين الجدد الأمريكيين، وبمباركة لاحقة من إدارة أوباما الديمقراطية في واشنطن.. ولم يندحر المشروع الأطلسي في سورية فحسب، بل نشهد فعلياً شبه إخلاء غربي لكامل منطقة الشرق الأوسط، وتوضعاً تدريجياً لنظام إقليمي ودولي يكنس أمامه معادلات ومفاعيل حقبة الأحادية القطبية والتفرّد الغربي بالهيمنة على العالم.
من هنا، يصبح الحديث عن المطالب والاشتراطات نوعاً من “الفذلكة اللفظية”، والتعاطي الدبلوماسي الساذج، فإعادة بناء العلاقة مع سورية ليس عبقرية أو إلهاماً، ولم يكن سباحة عكس التيار، بل هو السبيل الأخير واليائس لاحتواء واستيعاب ما تسبّبت به السياسات الأردوغانية الحمقاء والمتعجرفة طوال سنوات طويلة، فهو الخطوة التي كانت تركيا آخر من أقدم عليها، وسلك طريقها بين مجموع بلدان المنطقة.. وهو بالأحرى محاولة جدّ متأخرة – وربما لا تكون قبل فوات الأوان – لإصلاح أخطاء “تركيا العدالة والتنمية” الخاصة، واستثمار فرصتها الوحيدة المتاحة لكي تعاود الوقوف مجدّداً وسط الحرائق الكارثية التي كانت أشعلتها بأقرب جوار لها، قبل أن تكتشف لاحقاً أنها كانت أوّل من تلظى بلهيبها.. لقد اشتعلت سورية حقاً، وجرت محاولات مستميتة لتمزيقها وتقطيع أوصالها إلى الأبد، ومورست بحقها أفظع أشكال السادية، وتفنّن عتاة المجرمين والقتلة، وأرخص المرتزقة، وأشدّ السياسيين حقداً وغباء وتذللاً، في الإمعان في تدميرها كعربون طاعة لخدمة السيّد الأمريكي، سيّدهم جميعاً، ولكن المحصلة كانت شرق أوسط يسير معصوب العينين إلى فاجعة معلنة: انهيار جماعي سياسي واقتصادي، وإفلاس شامل أخلاقي وقيمي، وردّة دينية، واتّجار فكري، وهول يذكر في جوانب كثيرة منه بأشدّ صفحات العصور الوسطى سواداً وظلامية. وللأسف، كان علينا أن ننتظر لأكثر من عقد من الزمن لكي نتبيّن، بالتجربة المرة وبألم الضحايا ودموع الأمهات وبالظروف التي تفتقر إلى أبسط مقومات العيش اليومية، أن دماء شبابنا الطاهرة وبسالة جنودنا ووطنية شعبنا وشجاعة قيادتنا أنقذت سورية حقاً، ولكنها أيضاً هي التي أنقذت المنطقة من أسوأ كابوس كان بانتظارها، وكان يعدّ لها، وسط جشع وأوهام وضيق أفق أسوأ وأحطّ طبقة سياسية يمكن أن تعرفها شعوبنا، وهي صفات – وللأسف ثانية – تناوبت عليها الأنظمة السياسية التابعة تاريخياً، كما المعارضات “الثورية” التي برهنت أنها أشدّ تبعية واستزلاماً!.
بلى، لقد أسقطت سورية مشروع الشرق الأوسط الجديد بصمودها السياسي والاقتصادي والعسكري، وبقوة رفضها التي لا يدرك الكثيرون حتى الآن معانيه وتأثيراته ودلالاته وإسقاطاته التاريخية، فمن خلال هذا الرفض تمكّنت سورية، وتتمكّن، من تثبيت موازين القوى عند النقطة التي تحول دون استباحة قوى الهيمنة الأرض والتاريخ والثقافة، وتمنع تسجيل “انتصار / هزيمة”، قد يوازي نكبة أو سقوطاً جديداً، فالهيمنة تحقّقت عبر أجيال، والتحرّر لن يكون بالمقابل مهمة جيل واحد هو اليوم في مرمى الاستهداف وتحت المقصلة.. والمهمّة عابرة للأجيال وهي وطنية وقومية وحضارية.
يمكن لشعب مقاوم أن يصوغ سمة حقبة كاملة من الزمن، وقد صاغها شعبنا بكل قدسية وأمانة. وإذا كان أحد ما معتاداً على التقلب والانقلاب في مواقفه فذلك شأنه أن يقتلع أشواكه بيديه.. وليس أردوغان أول من لعب “الأكروبات”، حتى لو حاول البعض التهوين من الأمر بالحديث عن براغماتية مألوفة ومتفهّمة.. يبقى التأكيد على أن المنطقة دخلت نفقاً مظلماً منذ أن تفجّرت المؤامرة على سورية، وهي لم تخرج منه حتى الآن، ولكن ما تؤكده المواقف الأخيرة هو أن سورية المنتصرة هي اليوم ضرورية ولا غنى عنها لإطفاء الحرائق التي كان المتآمرون أشعلوها فيها وببلدانهم نفسها.