الضجيج والتلوث السمعي والبصري في قنوات الأطفال… خطورة على الذائقة والسمع والنظر
البعث الأسبوعية-جمان بركات
من بين كل المعطيات السلبية التي تطالعنا كل يوم في ثقافة أطفالنا هناك ما يسمى التلوث السمعي، كثرة الصخب والإيقاعات العالية الرتيبة في بطشها بأذن الصغار، حتى لكأن هناك نمطاً مقصوداً من تكرار الموسيقى الصارخة- إن كان حقاً اسمها موسيقى- على ذائقة أطفالنا عداك عن الكلام الممجوج والهابط أحياناً والذي لا يحمل في طياته أي قيمة لغوية أو معرفية.
حول هذا الموضوع كان للبعث الأسبوعية هذا الحوار مع بعض المشتغلين في مجال أدب وفن الطفل.
جيل فارغ
في السابق كان مهند صوان يقتدي بالمثل القائل: “العلم في الصغر كالنقش في الحجر” ويتابع القول: مع التطور والانفتاح على الآخر (العولمة) وقعنا في فخ قبيح لم نأخذ خطورته بالحسبان، المشكلة بدأت منذ مايقارب الأربعين سنة عندما بدأت ألعاب الحاسوب تسرق وقت بناء عقل الطفل وتنشئته أخلاقياً ومعرفياً حتى اكتمل اتساع الفخ في برامج تلفزيونية غير مراقبة من ناحية بعدها النفسي وحقلها المعرفي الذي ستقدمه للطفل.
لقد ركزت هذه البرامج والمسلسلات والأفلام على تشويه ذائقة الطفل في نواح ثلاثة:
أولها: اللامعقول، كأن تكون هناك كائنات غريبة متعددة الأطراف أو العيون أو فتى بشعر نحو الأعلى أو سمكة تمشي أو إسفنجة توقد ناراً تحت الماء أو بطلاً خارقاً يطير في السماء وغيرها الكثير.
ثانيها: الصورة المهتزة (الأكشن) فالحركة السريعة للصور تؤدي للاضطراب وضعف التركيز والفراغ النفسي.
ثالثها: الألوان الفاقعة المثيرة كاللون الأحمر القاني والأخضر والأصفر وغيرها من الألوان الفاقعة، هذه الألوان تؤدي لإثارة العنف لدى الطفل.
فنشأ جيل فارغ ثقافياً ومعرفياً مضطرب نفسياً نزق عنيف لم يعد يتقبل عادات وتقاليد مجتمعنا الشرقي فثار عليها ولم يعد مطيعاً لوالديه أو يتأفف من تعاليمهما التربوية ولم يعد محترماً لمدرسته ومعلميه بل صار الهدف عنده علامة النجاح وليس المعلومة على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة لتأتي بعدها هذه البرامج لتزرع في ذائقته ماتريد أو مايريد مشوهو الجيل حيث تم تهميش الأب وتجهيله في بعض المسلسلات وتصغير الأم وصناعة فوضى التصرفات، كل هذه مجتمعة وصلت بنا إلى جيل مهلهل لا يقرأ بل يتابع الجوال، لا يدرس بل يطمع بالنجاح بأي ثمن للنجاح فقط، لا يبحث عن المعرفة بل يستهلك المعلومة ويقلدها بلا فهم، فالطفل يعرف ألعاب الحاسوب والجوال ولا يفكر أبداً بابتكار لعبة يتسلى بما يعرض أمامه ولا يبحث عن معلومة جغرافية أو تاريخية أو علمية.
فكم كنا نحن نستمتع ببرنامج افتح ياسمسم بفوائده الكثيرة، هل يعرف أطفالنا هكذا برامج أو يتابعها بشغف كما كنا نحن؟
إن مسؤوليتنا الأخلاقية والفنية تستوجب علينا مواجهة هذا التيار الجارف نحو الانهيار.. من خلال برامج علمية وفنية وثقافية مشوقة تستدعي تعاوننا جميعاً لتحقيق هذا الهدف.
وأتمنى أن تقدم الجهات الراعية لفن الطفل ما يلزم وتدعم القائمين على هذا التوجه لنحقق تقدماً ملموساً على أرض الواقع في التأثير الإيجابي على الذائقة الفكرية والسمعية والبصرية لطفلنا الحبيب، فالمهمة عظيمة ووطنية وإنسانية بامتياز.
هنا أشيد بالجهود المشكورة لبعض الشركات ودور النشر والمحطات والمنظمات أو حتى الحالات الفردية التي اهتمت بهذا التوجه وسعت إليه متمنياً المزيد من الدعم كي نستطيع تكوين اتجاه كامل كماً ونوعاً يواجه ذاك التيار المشوه.
سموم فكرية
هناك فوضى وتلوث من حيث ما يقدم للطفل هذه الفترة، بهذه الكلمات عبرت رندة حلوم وتابعت بالقول: قنوات التعامل مع الطفل تعاني الارتباك والتشويش منها ما هو مقصود، ومنها ما هو على سبيل “ليس بالإمكان أفضل مما كان”، لن أدخل في تسمية قنوات التلوث هي باتت معروفة فيما تقدمه من سلبيات وقلب المفاهيم والتشويش على الطفل من حيث إما السذاجة وإما الرعب وتصل في بعض القنوات على تشجيع المثلية الجنسية وبعضها الآخر يهاجم فطرة الدين وطبيعة الوجود، وبعضها يقلب مفاهيم الدين ويصدر التطرف.
هي سموم فكرية كبيرة جداً من حيث القرب من الإباحية الفكرية وإباحية الصورة والتلوث السمعي وأنا أجد أن هناك محطة تقدم كل هذا الخراب دفعة واحدة لا داع لذكر اسمها أظنها معروفة ويجب منع الطفل من متابعتها.
كما أن الجرعة تزداد عندما يقترب العمل من مخاطبة اليافع ناهيك عن جرعة الحزن واليتم والقهر النفسي في الكثير مما قدم للأطفال في السابق، كان التركيز على حالة اليتم، لدرجة أني في وقتها كنت أخاف أن أفقد أمي عندما شاهدت اليتم في الكرتون.. مثل “ريمي”، “بيل وسباستيان”، “سندي بل”، “الأمير الصغير”، “بائعة الكبريت”، “هايدي”…والكثير.
كما أن ما يقدم للطفل ربما هو زراعة خلايا سامة تنمو معه حتى يكبر متمرداً طائشاً وربما بعضها يصل إلى حد التشجيع على الجريمة والقتل بطريقة قطع الرأس وهذا مطروق وموجود وهي تعزيز للذة السادية المجتمعية، والبديل المحلي ضعيف جداً لا يستأثر بمدارك طفلنا العربي، لنصنع لأطفالنا ما يناسب فكرنا أنهم يصدرون لهم الخراب النفسي والفكري والسلوكي، يجب وضع قيود على الأقمار الصناعية هذا رأي شخصي.
ألحان مشوهة
وبدوره قال مهند العاقوص: إن أدب الأطفال هو كل نتاج فكري أو لغوي أو حركي أو موسيقي يخاطب الطفولة بمراحلها ويراعي خصائصها المميزة عمرياً ونمائياً باستهداف الوعي واللاوعي تطويراً للمعرفة وتحفيزاً للخيال وتحريراً للمشاعر وتوظيفاً للحواس.
فهل ما يقدم للأطفال حالياً ينسجم مع هذا التعريف؟
إن الإنتاج المرئي الموجه للطفل وخاصة الرسوم المتحركة هو إنتاج خجول يعيبه عدم التخصص الكامل والفهم العميق لطبيعة هذه المرحلة فنجد أحياناً خللاً على مستوى النص أو الرسم أو الصوت والمؤثرات أو التحريك وقلما نجد عملاً عربياً يحقق تكاملاً بين عناصر العرض كافة، فما هي العقبة التي تحول دون ذلك؟
بكل تأكيد إن غياب الوعي العام بأهمية ما يقدم للطفل ومدى تأثيره على القيم الجمالية يلعب دوراً في عدم تبني مشروع استراتيجي في هذا المجال وبالتالي عدم توفير الميزانيات اللازمة لإنتاجات تحترم الذائقة اللغوية والبصرية والفكرية لدى الطفل.
إن المعايير الجمالية في العمل المرئي قد تتضمن الأشكال والخطوط والأبعاد والألوان والعلاقات البصرية بين عناصر الشاشة ومجموعها هو ما يؤثر على راحة الدماغ بما يتلقاه من صور وتراكيب بصرية جمالية.
هذه المعايير الجمالية التي قد تبدو أكثر وضوحاً في العمل البصري، قد تكون أكثر ضبابية عندما نتحدث عن العمل السمعي وما يتطلبه من تباين وتمايز في نبرات الأصوات وعمق شعوري لكل صوت وأداء درامي انفعالي ينسجم مع الأفكار وتغير الأحداث بالإضافة إلى مجموع المؤثرات التي تتناسب مع الحدث وبيئته الزمكانية.
وعندما نتكلم عن أغاني الأطفال لا نغفل عن حقيقة أن ما ينتج هو كثير لكن القليل منه فقط هو المناسب وغالباً يرتبط الأمر بالألحان المشوهة التي تنطوي على إيقاعات لا تتناسب مع المراحل العمرية للطفولة.
إن الجمال وقيمه المتنوعة هو غاية الآداب، واختلال عناصره في العمل الأدبي هو تلوث.
نحن لا نقبل أن يأكل أطفالنا تفاحة تالفة، وكذلك علينا أن نفكر فيما يتعلق بالصورة والصوت والموسيقى والفكرة، لأن التغذية الصحيحة هي التي ستحقق الشرط السليم لطفل نحلم أن نجنبه كل أشكال التلوث.
الربح السريع
وحسب رأي الفنان رامز حاج حسين: في ثورة التقانات الحديثة وزحام محطات الطفولة وقنوات الأغاني كان لا بد من أن يكون الطفل معرضاً لهذه الموجة الطاغية من الأغاني بكلماتها ومن الموسيقا والإيقاعات، ونادراً ما نجد المحتوى الجيد والموسيقا المدروسة المناسبة لذائقة أطفالنا، والسبب يتلخص بلهاث تلك الأقنية وراء الربح السريع والبحث عن قيمة التنفيذ البخس، فصار الكل يركض وراء فكرة واحدة وهي ملئ الساعات وتعبئة الهواء كما يقال لتغطية ساعات البث الخاصة بهم، فكانت بوصلتهم تتوجه نحو تكرار الإيقاعات الصاخبة والراقصة والباعثة على الحركة والانفعال، وهذا يؤثر سلباً في ذهنية وإذن وعين الطفل بشكل سلبي وينشئ جيل معتاد على الصراخ والصخب والانفعال في التعبير عن ذاته أغلب الأحيان.
الأسرة
ومن جهتها قالت الشابة لمى بدران: بداية أكثر ما يمكنني تأكيده في هذا الشأن على صعيد الطفل العربي أن الطفولة في خطر وهذا من خلال الانعكاسات التي نراها على سلوك أطفالنا اليوم… ما يهتم به طفل اليوم هو برامج التسلية والآيباد والألعاب المضيّعة للوقت لا أريد أن أتطرّق إلى الناحية الإنتاجية لأعمال الطفل من مسلسلات وبرامج لكن سأكتفي القول أن الكثير منها يحتاج إلى قيم حقيقية سامية تنشىء ذائقة عالية المستوى في ظل الظروف الصعبة للطفل العربي من حروب وأزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية وهنا أشير وأؤكد على الأسرة التي هي أساس المجتمع فحسب الدراسات تم تحديد ١٠ متغيرات فاعلة في تشكيل هوية الطفل العربي وكانت العوامل الأسرية أكثرها تأثيراً بنسبة ٩٨،١% تليها المتغيرات التعليمية والثقافية، لذلك لو أن كل أسرة سورية وعربية تمتلك ثقافة متابعة أطفالها بشكل جيد والحرص الشديد على ما يتلقوه لصنع ذائقتهم السليمة والجميلة كانت النتائج ليست كما نراها اليوم. سابقاً كانت البرامج والمسلسلات الكرتونية القديمة أكثر تأثير وفاعلية إيجابية ولكن مع مرور الوقت هناك قيم تتلاشى في نفوس أطفالنا والأسباب كثيرة لكن أهمها الأسرة.