هل تتحوّل الولايات المتحدة إلى جمهورية موز؟!
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
أشارت مجلة “سبيكتاتور” البريطانية على لسان أحد كتابها فريدي غراي، إلى أن الرئيس الصيني شي جين بينغ، يرى في الولايات المتحدة قوة عظمى متدهورة ودولة هرمة مجنونة، وشبّه الكاتب الولايات المتحدة بـ”جمهورية موز”.
ربما كان هذا الحديث في السابق مجرّد أمانيّ يطلقها كل من يحلم بانهيار “الإمبراطورية الأمريكية”، ولكن بالنظر إلى الحال الذي آلت إليه الأوضاع الداخلية في هذا البلد، لم يعُد مثل هذا الكلام غريباً على المتلقّي الذي صار لزاماً عليه أن يسمع في كل حين حديثاً عن الانهيار الأخلاقي والاجتماعي والأمني هناك، فالصراع المتعدّد الأوجه الذي يحكم العلاقات بين الحزبين الرئيسين الديمقراطي والجمهوري، بات السمة الأساسية لطبيعة العلاقات التي تحكم المجتمع الأمريكي، لذلك أصبح الانقسام في المجتمع الأمريكي عمودياً، على اعتبار أن كل حزب من الحزبين يدّعي أنه يمثل طبقة اجتماعية معيّنة، وإلى حد بعيد يمثل لوناً معيّناً، فالجمهوري يمثل البيض أي “الكاوبوي الأمريكي”، بينما يمثل الديمقراطي أصحاب البشرة الملوّنة من أصول أمريكية لاتينية وإفريقية، وهذا الأمر يوسّع إلى حدّ ما ظاهرة التمييز العنصري التي لم يتخلّص منها المجتمع الأمريكي منذ إعلان قيام الولايات المتحدة الأمريكية، التي قامت على جماجم سكان البلاد الأصليين الهنود الحمر، عبر قرون من الإبادة العرقية التي مارسها المهاجرون البيض بحقهم، مستخدمين فيها أبشع أساليب الإبادة التي عرفها التاريخ، فضلاً عن التمييز الذي تمارسه الشرطة الأمريكية مع أصحاب البشرة السمراء، ولا يخلو تاريخ الإمبراطورية من أحداث دموية على خلفية هذه الظاهرة.
وليس بعيداً عن ذلك الحديث عن الأمراض الاجتماعية المنتشرة في المجتمع الأمريكي، من انتشار لظاهرة فوضى السلاح بأيدي المراهقين مدعومة بقوانين تتيح ذلك وخاصة لذوي البشرة البيضاء، وحوادث السرقة والقتل العشوائي، فضلاً عن انتشار المافيات وعصابات الجريمة المنظمة، والشذوذ الجنسي والتسوّل والفقر، وكل هذه الأمور تقود بالمحصلة إلى مجتمع مريض يحمل داخله بذور انقسامه، إذ لا يمكن أن تكون القوة هي الضامن الوحيد لتماسك المجتمعات.
فالنزعة المادية التي نزعتها الإمبراطورية الأمريكية منذ نشأتها ساهمت في المحصلة بنمو هذه الأمراض الاجتماعية، كما أن التفاوت الطبقي الواسع في المجتمع الأمريكي أدّى دوراً سلبياً في ظهورها.
وإذا ما أضفنا إلى الأمراض السابقة السياسات الخاطئة للحكومات الأمريكية المتعاقبة، من إنفاق هائل على الحروب وصناعة السلاح، والتدخلات الأمريكية غير المشروعة في دول العالم وصناعة الأزمات والإرهاب وغيرها من الأمور التي يُراد منها على وجه الحقيقة إبراز القوة والهيمنة، فضلاً عن تركّز الثروة في أيدي قلة قليلة من الناس، واستحواذ الشركات على القسم الأكبر من السيولة؛ إذا أضفنا إلى كل ذلك حالة التضخّم الخطيرة التي يعيشها الاقتصاد الأمريكي وغلاء أسعار الوقود والسلع، بالإضافة إلى عجز كبير في الموازنة العامة للدولة، وحجم هائل من الديون الخارجية، وفقدان العملة الأمريكية قيمتها في العالم على خلفية الحروب الاقتصادية التي شنّتها الحكومات الأمريكية المتعاقبة على الدول الأخرى، وخاصة الكبرى منها كالصين وروسيا، وحالة عدم الثقة المتزايدة بالدولار على خلفية الانخفاضات المتتالية، ولاسيما بعد أن بدأت الدول الأخرى تحجم عن الاستثمار في سندات الخزينة الأمريكية، وقيامها تدريجياً بسحب استثماراتها، فإن المجتمع الأمريكي بات يحمل في طيّاته كل بذور الانقسام والتشظي، حيث يمكن حسب أكثر المحللين الاقتصاديين والسياسيين أن تندلع حرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس في المجتمع المتهالك الضعيف بفعل جميع الأمراض المذكورة سابقاً.
ومن هنا، فإن الحديث الذي ساقه الرئيس الصيني حول واقع الولايات المتحدة الآن ليس ضرباً من الأماني، وإنما هو حديث مبنيّ على واقع أثبتته مجموعة من الدراسات التي قدّمتها مراكز أبحاث عالمية، لأن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن رئيس دولة عظمى لولا أن له ما يؤكده على الأرض، وخاصة أنه صدر عن كثير من المسؤولين والمحللين السياسيين الأمريكيين، ومنهم كبار منظري السياسة الأمريكية أمثال هنري كيسنجر وزير الخارجية الأسبق، ومؤخراً دونالد ترامب الذي رغم كل ما يقال عنه من تهوّر في إطلاق الأحكام، إلا أنه في المحصلة تاجر يملك شركات كبرى وعقارات ثمينة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويستطيع التمييز بحكم الصراع الذي يخوضه حزبه الجمهوري مع نظيره الديمقراطي بين ما هو منطقي في السياسة وما هو غير منطقي، كما أنه يمتلك من البراغماتية ما يمكّنه من الإمساك بالعصا من الوسط في علاقاته مع الدول الكبرى، بعكس الديمقراطيين الذين أظهروا الصراع بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين على أنه صراع وجود وذهبوا في العداء مع هذين الخصمين إلى نقطة اللاعودة، حيث بات من الوارد الآن أن يطلق أيّ من البلدين رصاصة الرحمة على الإمبراطورية الهرمة كما قال الرئيس الصيني، أو على جمهورية الموز التي تحدّث عنها غراي في مجلة سبيكتاتور البريطانية، ورأى أن من ملامح تراجع الولايات المتحدة عدم نجاح زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان، و”خطأ” آخر للزعيم الأمريكي جو بايدن الذي لم يتمكّن من ارتداء سترته ونظارته بعد زيارة ولاية كنتاكي، لافتاً إلى أن “معدل القتل في الولايات المتحدة يصل إلى أعلى مستوياته وأن مشكلة توفير أغذية الأطفال لم يتم حلها بعدُ”، مستغرباً أن تكون هناك مشكلات كهذه في أكثر الاقتصادات الرأسمالية تطوّراً في العالم.
لذلك شبّه الكاتب الولايات المتحدة بجمهورية الموز، وإن لم يرِد أن يطلق عليها هذه التسمية صراحة، وذلك ربما حفاظاً على شيء من الاحترام في التعاطي مع رأس النظام الرأسمالي في العالم الذي ينتمي إليه الكاتب.
غير أن ترامب الذي اعتاد طبعاً أن يسمّي الأشياء بمسمّياتها الحقيقية، ومنها تشبيهه لمملكة آل سعود بالبقرة الحلوب، لم يتورّع عن الحديث عن ذلك بقوله على خلفية استدعائه للمثول أمام تحقيق تجريه المدّعية في نيويورك بشأن تعاملاته كقطب من أقطاب العقارات: “أتعرّض أنا وشركتي العظيمة للهجوم من جميع الجهات.. هذه جمهورية الموز”.
وعلى منصّة “تروث سوشيال”، كتب ترامب قائلاً: “موجود في مدينة نيويورك الليلة.. سأرى المدعية العامة العنصرية لولاية نيويورك غداً، لمواصلة أعظم مطاردة ساحرات في تاريخ الولايات المتحدة!”، مستحضراً بذلك مزاعمه المتكرّرة حول ليتيشيا جيمس (وهي مدّعية من ذوي البشرة السمراء) وحول التحقيق، ومنطلقاً من العنصرية ذاتها التي تنخر المجتمع الأمريكي، ورادّاً سبب ذلك إلى محاولة الحزب الديمقراطي إقصاءه قبيل الانتخابات النصفية بحجة أنه كان قد أخذ معه سجلات سرية عندما غادر البيت الأبيض، في الوقت الذي لم يقتحم فيه أحدٌ منزل وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون التي انتهكت قواعد المراسلات.
والسؤال المطروح الآن: ألا تشير جميع المعطيات على الأرض لدى ما تسمّى الإمبراطورية الأمريكية، من دولة منهارة هرمة وضعيفة وعاجزة عن التأثير في أيّ من القضايا العالمية الكبرى، إلى أنها بالفعل أصبحت واحدة من جمهوريات الموز؟.
ربما يكون عمر الإمبراطورية الافتراضي قد انتهى.. وتحوّلت بالفعل إلى جمهورية موز، وخاصة أنها تجاوزت منذ زمن مرحلة الذروة ودخلت في طور الزوال.