الأجداد والجدات رواة الإبداع والحياة
البعث الأسبوعية-غالية خوجة
الجذور الأولى هي الصبغيات الأولى أيضاً التي يتوارثها الإنسان بملامح الشكل والطباع وصفات الروح والأمراض والصحة والذاكرة والإبداع والمزاج، لذلك، ونتيجة للبصيرة المستقبلية قال صلى الله عليه وسلم “تخيّروا لنطافكم”، كما أن العلوم الإنسانية بأنواعها، أثبتت كيف نتوارث الإيجابيات والسلبيات من خلال “الألجينات ـ الصبغيات/ المورثات”، وهي حالة من التأليف.
وللأهمية الفائقة لهذا الموروث المادي والنفسي والمعنوي والروحي، وسلالاته المختلفة والمتنوعة، نكتشف أهمية الأم البشرية الأولى “حواء”، والأم الطبيعية الأولى “الأرض” ثم الطبيعة والسماء والمجرة والأكوان، ولا تقل أهمية الجدين البشريين عن هذه المنظومة “آدم”و”حواء”، وما ترافقهما من رموز طبيعية وكونية.
ثم تناسلت رمزية الأمومة الأولى لتشمل العالم، ولذلك فإن الجدة هي الأم الكبرى مهما علتْ شرعاً وقانوناً، وهذا ما عرفه الموروث الإنساني بكافة أشكاله ولغاته وأديانه، بدءاً من الخرافات والملاحم والأساطير، عبوراً بالآثار الأركيولوجية، ولا انتهاءًبحضور الأجداد في الحياة العامة والخاصة، وفي الأعمال الأدبية والفنية الإنسانية.
الذاكرة الأولى جدة الجميع
ويتسم الأجداد وكبار السن بالحكمة والوقار وتجارب السنين، ولهم عذاباتهم وآمالهم وأحلامهم، لكن الحياة علمتهم الصبر، فبنوا القرى والمدن، وزرعوا الحقول، وترابطوا بعلاقاتهم الإنسانية والاجتماعية في الضراء والسراء.
قال بورخيس “ألد أسلافي” مؤكداً على الحضور الدائم بين عراقة الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا ما رأته “عرافة دلفي”، وهذا ما أعلنته الإلياذة والأوديسا، بينما تخبرنا أسطورة “ممو” أن “الماء” هو جد سلالتنا الأولى، لأهمية الماء ورمزيته وعلميته وواقعيته وتجلياته الكيميائية والخيميائية والروحية، التي تشع بلا شك، من الآية الكريمة: “وجعلنا من الماء كل شيء حي”.
الجدة المؤلف الخفي
وضمن هذه البنية الدلالية تلمع من ذاكرة كل منا صور متعددة للجدة والجد، وتشتبك المشاهد وتحولاتها مع تحولات الشخصية وهي تنسج السجاد، تحيك الصوف، تخيط الملابس، تطبخ، تتناول الدواء، توجّه وتعلم وتربّي، ونجلس في حضنها الدافئ الحنون، لنستمع إلى نبضاتها وهدهداتها وأغانيها وأناشيدها وألغازها، كما نجلس حولها لتحكي لنا حكايات شيقة من تراث الشعوب التي تضيف إليها أسلوبها، وكلما حكت الحكاية ذاتها نجدها تضيف إليها وتحذف منها، وكأنها تجدد الأحداث والشخصيات والأهداف بطريقة تعيد التأليف بشكل مختلف.
وليس بعيداً عن هذه البيئة، نلاحظ أن العديد من الأدباء والفنانين، اعتمدوا على ذاكرتهم التي ألفتها جداتهم، غالباً، فأشعلت لهم شرارات سردية لا تُحصى، وكانت الجدة المؤلف المتخفي والخفي وراء الكاتب، أو أن الكاتب تخفّى بشخصيتها ومنطوقها وتقمّص ضميرها وذاكرته في آنٍ معاً، كما أن الجدة هي الشخصية الرئيسة اللا منظورةلصوت وضمير المؤلف، إضافة إلى كونها شخصية من شخصيات العمل الأدبي.
وهذا ما كشفه ماركيز عن دور جدته الخفي في أعماله، كونه كتب حكايات جدته، لكن، بأسلوبه الواقعي السحري،
إيكوفيديس والعالم النفسي السحري
وتبدو جدة جورجيوس أيكوفيديس في لوحته شخصية متسمة بأحاسيس أسطورية من الحنان وهي تتأمل الحفيدة الصغيرة التي تشبه طفولتها إلى حد ما، وكأنها تستعيد ما مضى من أيام وقصص وحكايا، بينما هي حانية على الحفيدة التي تتناول الفواكه (الأجاص، الكرز، التفاح).
وتعكس هذه اللوحة الزيتية دقة الألوان، ومفرداتها الدلالية، من خلال تعبيرها عن أزياء القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، واللمسات الفلكلورية الواضحة في ثياب الجدة والحفيدة، إضافة إلى “الصينية” و”الصوفة” والجدار كخلفية للوحة تشير إلى الهيكل المعماري في ذلك العصر، والذي يبدو أقرب إلى منزل ريفي، قد يكون بيت جدة الفنان إيكوفيديس، بينما تبدو الحفيدة الصغيرة تستكشف الفواكه والوجود، وتبدأ بمعرفتها الأولى على الموجودات والجدة والحياة، إلاّ أنّ الفنان يترك إيماءات تغور في أعماقها لتكون هذه اللحظات في يوميات ذاكرة الصغيرة التي ستتحول إلى جدة أيضاً.
أحاسيس أسطورية وواقعية بلمسات جمالية تتناغم فيها احتمالات الألوان كالأسود وأطيافه وتدرجاته والبني وظلاله والأرجواني وحضوراته الصافية، بينما تبدو زمانية اللوحة نهارية، قد تكون وقت الضحى أو وقت العصر، وهذا ما تحدده مسافة ظل الشمس الحاضرة على الجدار، على يمين اللوحة ويسار الجدة.
وبالتوازي، يرسم جورجيوس إيكوفيديس الجد ضمن الحالة النفسية الفانتازية ذاتها التي رسم بها الجدة، وكأنها الشخصية ذاتها التي تجتمع فيها البراءة والحنان والرعاية للحفيدة، وتبدو شخصية الجد بكامل الحنوّ على الطفلة التي تلهو بـ”غليونه”، بينما هو سعيد بتفاصيل الحدث، وبما تفعله الحفيدة، مستغرقاً في تأملاته ونظراته الموزعة بين دواخله، وذاكرته، و”أناهُ” التي تخطتْ مرحلةَ الحفيدة بعقود، بينما يترك لنظراته الأخرى متابعة ما تفعله الحفيدة، متفائلاً بمستقبل إيجابي، تمتد فيه شخصيته إلى الطفلة ومستقبلها.
وتكمن جمالية هذه اللوحة، كأعمال إيكوفيديس الأخرى، بسحرية الألوان وخرافتها، رغم واقعية الشخوص، والحدث، إضافة إلى التركيز على مفردات اللوحة ودلالاتها وأهدافها الإنسانية، وأبعاد التوازن بين الكتلة والفراغ والبعد الثالث القابل للقراءة من خلال إيقاعية الألوان والخطوط والتفاصيل الصغيرة، سواء في نقوش الأزياء، أو حتى “بطانة” ثوب الطفلة، التي تبرز حافتها البيضاء، ولا ننسى حركة التجاعيد وما تتركه مع الابتسامة الخفيفة في كل من لوحتَي الجدة والجد، وإسقاط الضوء النهاري، الذي يسرد حكاية أخرى للهدوء والجو الريفي والطمأنينة.
والملفت أن الطاولة الخشبية بلونها البني الغامق، والجدار بلونه وعمره الزمني، متشابه في اللوحتين، تماماً، كملامح شخصية الجدة والجد، وهذا يوحي لنا بعلاقة تكاملية بين اللوحتين وكأنهما عمل واحد في لحظة واحدة في بيت واحد، لكن، كل منهما يحضن حفيدة من الأحفاد.
الجدة القارئة
وتلفتنا لوحات عديدة للجدة القارئة والمعلمة، التي تقرأ الحكايات وغيرها للأحفاد، وفي هذا المجال نلاحظ كيف رسم الفنان الإنكليزي آرثر جون إلسلي الجدة في سلسلة من أعماله، لا سيما الجدة القارئة التي ترتدي الأزياء المتناسبة مع ذاك العصر الفيكتوري، من قبعة وفستان وألوان، وتبدو وهي تمسك بيد الحفيدة الحائرة بين اللعب مع القطط ومتابعة القراءة مع الجدة التي تبرز في لوحة أخرى وهي تقرأ لزوجها العجوز من ورقة تشير إلى أنها رسالة من أحد ما، قد تكون من الابن، أو أحد الحفدة، راخية “بكرة الصوف” ومكملة القراءة.
الجدة الخياطة
ما زالت الخياطة تستهوي الكثيرين، إلاّ أنها كانت في الأزمنة الغابرة ضرورة حياتية، لا سيما في البيئة الفقيرة، وكانت الجدة تقوم بهذه المهمة طوعاً، لتدير بطريقة أو بأخرى، اقتصاد الأسرة وميزانيتها، مما جعل للتدبير أهميته في استمرارية الحياة، خصوصاً مع مرور الأرض بعدة حروب عالمية، وأزمات مالية واقتصادية، إضافة إلى أزمات الكوارث الطبيعية، وأزمات الوباء العالمية.
وتتشابه الجدات في هذا المجال، إلاّ أنّ جدة الفنان الأسترالي أدولف هومبورغ تبدو مرآة صادقة لجدات ما زلن يعانين من هذا الواقع وهم بحاجة لأشد الرعاية.
جدة هومبورغ طيبة وجادة ومتألمة بصمت، تكبح أصوات ألمها لكي تمنح السعادة لأحفادها، فهي تشعرهم بأن ما تقوم به طبيعي جداً، وجميع الناس يعيشون بالطريقة ذاتها، صحيح هي منهمكة بعملها، إلاّ أن حفيدها الذي تخيط له بنطاله الممزق يبتسم معبراً عن سعادته التي يستمدها من حنان الجدة، بينما الحفيدة الثانية، فنراها واقفة تتفحص المشهد، وتخبئ لعبتها القماشية خلف ظهرها.
تلمع الثيمة الجمالية من دقة التفاصيل في المكان المتواضع، وما توحي به أدوات الطبخ المعلقة على جدار المطبخ، بينما يذكرنا الباب الخشبي بأبواب البيوت القديمة ورائحتها المختلطة بأصوات الجيران وأشعة الشمس المتسللة قليلاً إلى الداخل، ولا بد أن هذه المفردات أضافتها تدرجات اللون البني المتناسب مع حيوية اللحظة والحدث والشخصيات التي تتحدى البؤس والفقر، لتذكرنا، بفلاشباك ما، ببؤساء فيكتور هوغو وشخوص روايته ومصائرها.
الحب المتفاعل
تتخذ بعض الأعمال الأخرى ثيمة الحب المتفاعل والرعاية المتبادلة بين الجدات والأحفاد، ومن تلك الأعمال لوحة الفنان الإيطالي غاتيانو بيللي، التي تعبّر عن السعادة، بأسلوب تعبيري سحري عفوي، تتداخل في بنيته تلك الأشعة اللا مرئية الناتجة عن ملامح شخصيات اللوحة، والإضاءة المركّزة على الوجوه، المنعكسة من اليد اليمنى للجدة على الطاولة التي تستند إليها، وتنتشر على الجدران، لتشارك الصغار اهتمامهم وحفاوتهم بجدتهم كما تشاركهم الألوان بتفاصيلها الواضحة بين زركشات الثياب واللحظة العاطفية الإنسانية.
الجدة المعاصرة تكنولوجيّة
كوشنا غارسيا زيراالإسبانية، أول جدة عمرها 89 عاماً، ترسم لوحاتها بوسائل التكنولوجية الحديثة، معتمدة على برنامج مايكروسوفت باينت، تنشر أعمالها على “إنستغرام” ويتابعها أكثر من 120 ألف متابع، وبدأت قصتها مع الرسم أثناء مرض زوجها واهتمامها به، فاستغلت وقت فراغها وحولته إلى لوحات مستكشفة برنامج الرسم، معبرة بألوان زاهية عن الطبيعة ومفرداتها، وعن المدينة ومبانيها وأحوالها، مؤكدة أنها حكي ما يعجبها من أعمال ومناظر وأشكال.