تغييرات لا تروق لنخب العولمة الغربية
عناية ناصر
قدّم بوتين خلال مؤتمر موسكو العاشر للأمن الدولي الذي جرى في منتصف شهر آب الحالي الخطوط العريضة للنظام العالمي متعدّد الأقطاب الذي رأى أنه يتشكل، ورأى أن التغييرات التي تحدث لا تروق لنخب العولمة الغربية. كانت هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها بوتين مثل هذه المصطلحات، حيث اتهم في كلمته أمام المؤتمر دعاة العولمة باستخدام الفوضى للترويج لنسختهم من العولمة التي تضمّنت الترويج المتعمد للفوضى في جميع أنحاء العالم لأنها عزّزت رغباتهم في التحكم بكيفية إدارة العالم.
هاجم بوتين النخب الغربية لاتباعها سياسة احتواء ترقى إلى تقويض سيادة الدول الفردية بعد أن روّجت للأساليب الاستعمارية الجديدة التي عززت في الواقع الشمولية النيوليبرالية، وجادل بأن الليبرالية اليوم لا تحمل أي تشابه مع معناها الأصلي، حيث قمع النيوليبراليون المعاصرون كل الأفكار التي اختلفوا معها، ووصل هذا في الواقع إلى “الشمولية النيوليبرالية”.
كان المتهم والمسيء الأكبر في هذا الصدد هي الولايات المتحدة، التي كانت تتدخل بشكل واضح في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة من خلال الاستفزازات والانقلابات والحروب الأهلية، للتمسّك بهيمنتها وممارسة تلك الهيمنة على الدول الأضعف. لقد قامت الإدارة الأمريكية بذلك لقرون، وكل شيء في سلوك الإدارة الحالي يشير إلى الرغبة في الحفاظ على مركزها على الساحة العالمية، وما زيارة بيلوسي الأخيرة لتايوان إلا استمرار لهذه السياسة التي كانت وسيلة لإلهاء الأمريكيين عن الإخفاقات المتكررة لإدارتهم.
كانت المحاولات المتكررة لإلقاء اللوم على الصين وروسيا، بسبب إخفاقات الإدارة المتكررة في السياسة الخارجية دليلاً آخر على فشل تلك الإدارة. وفي هذا السياق، استشهد بوتين بالتحالف الأخير لأستراليا واليابان والولايات المتحدة باعتباره شكلاً من أشكال الوضع المزعزع للاستقرار وخلق الصراع، حيث كان هذا التحالف مثالاً كلاسيكياً على إثارة المشكلات، وبمثابة محاولة لتكرار حلف الناتو في جزء مختلف من العالم.
ومن المثير للاهتمام أن هذا النموذج قد اتبع بشكل منظم في محاولة تأمين الهند كجزء من تحالف مناهض للصين، وهي محاولة يبدو أنها فشلت، كما يتضح من علاقات الهند القوية والمستمرة مع روسيا وعضويتها في منظمة شنغهاي للتعاون. كما أن نجاح مبادرة الحزام والطريق والتوسّع الوشيك لمنظمة شنغهاي للتعاون دليل على أن التغيرات العالمية تسير في اتجاه مختلف عن النموذج الغربي القديم الذي كان يهيمن عليه الغرب، فقد كان هذا النموذج استغلالياً، وعمل لمصلحة الأغنياء على حساب الغالبية العظمى من الدول. واتهم بوتين النخب الغربية باستخدام الفوضى لتعزيز العولمة من خلال خلق الحروب، وفرض أساليب غريبة على الآخرين، وكانت روسيا والصين في طليعة معارضي هذا النظام القديم للهيمنة الغربية، وهذا هو بالتحديد السبب الرئيسي لاستهداف الغرب لهما.
إن عملية إنشاء نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب يعارضها الولايات المتحدة والغرب بشكل قوي ومستمر، الذين يدركون بوضوح تام أن مثل هذه التغييرات التي تسعى إليها الدول النامية ستؤدي إلى نهاية سيطرتهم، وهو أمر غير مستغرب أن يعارضوا التخلّص من هيمنتهم التاريخية، فهم يرغبون بالأحرى في الحفاظ على قبضتهم على النظام الاستعماري الجديد القديم. لقد لفت بوتين الانتباه بشكل خاص إلى الحرب في أوكرانيا، حيث أعلن عن أهداف محدّدة بوضوح، وهي تأمين أمن روسيا ومواطنيها والدفاع عن سكان دونباس من الإبادة الجماعية، وهذه الرواية مفقودة تماماً من الروايات الغربية عن القتال في دونباس، حيث قُتل أكثر من 15000 من مواطنيها وأجبر أكثر من مليون على النزوح، وما الوضع الحقيقي في دونباس سوى جزء من صورة أوسع لمحاولة قلب الحقائق من قبل الأوكرانيين والمدافعين الغربيين عما يحدث بالفعل.
وصف بوتين ما كان يحدث في أوكرانيا بأنه دليل على محاولات الولايات المتحدة لإطالة أمد الصراع، وقارن بين تصرفات الولايات المتحدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، واتهمها بالتدخل الصارخ في الشؤون الداخلية للدول، التي تقوم باستفزاز الدول، وتنظيم وترتيب الانقلابات والحروب الأهلية باستخدام التهديدات من أجل الابتزاز والضغط، كما تقوم بمحاولة ثني إرادة تلك الدول والعيش وفقاً لقواعد غريبة عنها.
تتمثلُ أهداف الغرب من خلال هذه الممارسات في الإبقاء على الهيمنة، من خلال استخدام هذا النموذج الذي يمكّنه من إشعال العالم بأسره كما فعل لقرون، ولا يمكن الحفاظ على مثل هذا النموذج إلا بالقوة.
لم يكن بوتين ينتقد الممارسات الغربية بشكل صريح كما فعل في هذا الخطاب، فمن الواضح أنه وصل إلى مفترق طرق في تفكيره، وقرّر أنه سئم من الألعاب التي استمر الغرب في لعبها، أو محاولات اللعب والمتاجرة بحياة المواطنين في الدول النامية في العالم. وفي هذا الخصوص، يتمتّع بدعم واضح من الصين التي لديها سجلها الخاص من الخبرة بأن الغرب هو في الواقع وحش مفترس همّه الوحيد السعي وراء مصلحته الذاتية، وعليه وحّدت الدولتان، روسيا والصين، قواهما الآن فيما يرقى إلى مستوى إعادة ترتيب جوهري للعالم.