فرنسا تفقد نفوذها في أفريقيا
هيفاء علي
لقد ولت الأيام التي تمكنت فيها فرنسا من استخدام شبكة نفوذها في القرن الأفريقي لسلب العقول والأرواح وتوجيهها ضد خصومها الجيو-سياسيين مثل روسيا. كما أنه لا داعي للتذكير بما قامت به فرنسا ذات يوم من تنفيذ ودعم عدد لا يحصى من الانقلابات لحماية مصالحها، حتى يأتي اليوم الذي يوجه ماكرون الإهانة للقادة الأفارقة ووصفهم بأنهم ديكتاتوريون غير محبوبين، كما هو الحال في مالي على سبيل المثال.
قبل بضع سنوات، كانت باريس تبدو قادرة على ممارسة تأثير القوة الناعمة، والخلط الاقتصادي والعسكري، للحفاظ على “مجال نفوذها” الذي فرضته على جميع المستعمرات السابقة التي تسميها” فرنسا-الأفريقية”، ومنذ أن بدأت موسكو تحقق تقدم مثير للإعجاب في القارة الأفريقية، انتاب السلطات الفرنسية الشعور بفقدان النفوذ وسحب البساط من تحتها وهي عاجزة وغير قادرة على فعل أي شيء.
لكن في الحقيقة إن أساس المشكلة يكمن في أن فرنسا لم تعد تشكل شريكاً جاذباً ومفيداً للدول الأفريقية التي استفادت بالتأكيد من بعض العلاقات التجارية مع فرنسا، في حين تقدر حكوماتها أن القوة الاستعمارية السابقة، أي فرنسا، تستغل شعوب الدول الأفريقية للعمل من أجل مصالحها، لكنها غير مستعدة للتضحية من جانب واحد بالمصالح الوطنية لإرضاء الدولة المستعمرة. لذلك كان دخول روسيا في اللعبة الجيو-استراتيجية قائماً على بروز بديل عن فرنسا ذو مصداقية، يحترم سيادتها ولا يتدخل على الإطلاق في شؤونها الداخلية.
في هذا السياق، أكدت روسيا مراراً وتكراراً أنها لا تهتم مطلقاً بالنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعمول بها في البلدان الأخرى، وهي معنية فقط بمساعدتها في الدفاع عن نفسها ضد عدوان الحروب الغربية الهجينة. كما قدمت هذه القوة الاوراسية العظمى نفسها كشريك موثوق ومفيد لضمان الاحتياجات الاستراتيجية لدول أفريقيا، خاصةً في مجال موارد الطاقة والأمن.
إذن يتعلق الأمر بطمأنة البلدان الأفريقية على السيادة الحقيقية، وبالتالي تمكينها من العمل كلاعبين أكثر أهمية في مرحلة انتقال النظامي العالمي إلى التعددية القطبية التي من شأنها تسريع تراجع الهيمنة الأمريكية القائمة على أحادية القطب. باختصار، أصبحت روسيا شريكاً جذاباً للغاية للدول الأفريقية، وهو ما يفسر سبب عدم إلتزام أي منها بمطالب فرض العقوبات الأمريكية ضدها، حتى داخل “دائرة نفوذ” فرنسا في غرب أفريقيا. وفيما يتعلق بهذه المنطقة، تخشى فرنسا من أن يتمكن النموذج متعدد الأقطاب والوطني الذي أظهره المجلس العسكري المالي من إنتاج نسخ طبق الأصل، وسريان العدوى في الدول الأخرى التي لا تزال تدور في دائرة النفوذ الفرنسي، ولهذا السبب يمكن القول أن فرنسا تدعم نفس الإرهابيين من ” تنظيم القاعدة” الذين زعمت أنها حاربتهم سابقاً، حتى تهاجم الآن الحكومة المالية الجديدة وشركائها الروس الجدد. وهذا يفسر أيضاً سبب تراجع ماكرون إلى مستوى إهانة موسكو وكل من يتعاون معها في القارة، بدعوى أنهم ليسوا أكثر من “قوى سياسية ضعيفة … بدون شرعية” على حد زعمه.
حقيقةً، لا يمكن لفرنسا أن تقاتل ضد روسيا من أجل موقع الشريك المتميز للدول الأفريقية، كما لا يمكن لأي بلد أن يوافق على التضحية بمصالحه عندما لم يعد مضطراً لذلك، والقادة الفاسدون الذين يستمرون في فعل ذلك لديهم مصلحة اليوم في مراقبة ظهورهم، خشية أن يخطط أمن قادتهم العسكريين لمحاكاة المثال المالي والإطاحة بهؤلاء القادة في المستقبل القريب.