عزلة شاعر!
حسن حميد
أعرفُ وبكل وعيي، أننا سنتسابق إلى اللغة، لنأخذ بلاغتها، وطيوبها، وأحزانها، ودموعها، وغصصها، وأساها، وجفافها، وندوبها، ومخاوفها، وتلويحاتها.. حين سيرحل أديب مبدع!.
سنكتب المدوّنات عنه، ونستلّ الشهادات من أعماق أرواحنا، ونسمع ما قاله أترابه عنه، وماذا كان يحبّ ويكره، وماذا أغمّه وأفرحه، وكيف تعذّب وهو يخوض، في لجّة حبره، كي يكتب لنا جمله المضيئة، وإلامَ حنَّ، ومن عشق، ومن صادق، ومن جافى، وكيف صبر، وصمت، وكابد، وتذكّر، ونسي، وكيف خادن الوحدة والعزلة، وكيف اشتقّ دروب الكلام الجديدة، وكيف لم يبقَ له سوى الورق والحبر، والأسطر المؤانسة، ليقول لليل: ها أنذا مازلت أضيء، وليسأل الشعر، إن بقيت قطرة في الجرار الذهبية؟
أقول هذا وأسأل: لماذا نكره الموت، ولماذا نحتفي به، وقد أخذ أعزتنا؟ ولماذا نحبّ الحياة ونجفوها في آن؟ ولماذا ننادي الجمال بالصوت العالي، وحين يُهرع إلينا على صورة شخص، أو كتاب، أو لوحة، أو سلوك، أو عزلة.. نستدير؟! ولماذا نحتفظ بتربيتة الكفّ على الكتف للمجاهيل، وللأزمنة التي لا تأتي، وللغرباء البادين لنا في النصوص المترجمة عن اللغات الأخرى، وبيننا من يماثلهم في الأهمية وأزيد؟!
أقول هذا، لأنني لا أطيق عزلة الأدباء الكبار، الذين لا يجاهرون بما هم فيه، فهم أهل إبداع نايف، وأهل حراسة لحقول الجمال والدهشة والسحر الحلال، ومن الوفاء أن نمشي في ظلال قراهم الأدبية.
هنا، نصّان، أحدهما للشاعر رسول حمزاتوف، والآخر للشاعر نزيه أبو عفش: النص الأول هو من أهم نصوص حمزاتوف المتداولة ترجمة (وفي غير لغة)، والنصّ الثاني نصٌّ غير مختار بالنسبة إليَّ، هو أحد نصوص نزيه أبو عفش، تعالوا لنرى الجمال، والبهرة، والاشتقاق.. في كليهما، ونحكم، ثم نسأل لماذا لا يلاقي نزيه أبو عفش، ومن يشبهونه في الإبداع حضوراً كونياً، مثل حضور رسول حمزاتوف؟!
هذا هو نص حمزاتوف (1923-2003)، وعنوانه: إلى والدي
إني أراك من بعيد/ نظرة فاضلة ويداً حانية/ أرى كيف أنّك تجلس على السطح/ في الصّباح الباكر، وقد ضممتني إليك،/ كنتُ أشعر بالدفء تحت معطفك/ من فرو الضأن،/ كما لو أنني أجلس بقرب الموقد/ أرى كيف أنّك أصبحت محنياً بعض الشيء/ لكنّك ما زلت جميلاً/ كيف رحت تمازح بعض الشبّان/ وقد دسست يديك تحت الحزام/ أراك تتابع الشمس بنظرك/ وقد راحت تغيب خلف الجبال/ أراك مغموماً وحزيناً/ أراك في كلّ مكان/ أراك على الدوام/ ولكني لا أستطيع أن أتخيّلك ميتاً/ في القبرمن دون روح/ (ت. د. إبراهيم استنبولي من كتابه: احفظوا الأصدقاء).
وهذا هو نص نزيه أبو عفش، وعنوانه:
حكاية إبصار السكين والتألّم من طعنتها
الآن، وقد رحلوا (أولئك الذين جعلوا حياتي جحيماً، وسرير أحلامي قبراً)/ الآن، وقد رحلوا وصاروا في الموت،/ كلّ ما أفعله في غيابهم واستذكار موتهم:/ تبييض ما كان من قبحهم، والتدرّب على نسيانه ونسيانهم/ شيء سيئ واحد يصعب نسيانه والبرء من علّته/ شيء واحد (ما أفدحه وما أوجعه)/ أنّني كلما تذكّرتهم، وقد صاروا أمواتاً (وكأنني أنا من خانهم وأوقعهم في الموت)/ أتذكّرهم فأندم/ أتذكّرهم فلا أكفّ عن معاتبة نفسي وتقريعها/ لأنّني، إذ كانوا لا يزالون أحياء، وفيما هم يدبّرون لي العثرات والمهالك،/ كنت أسمح لنفسي برؤية أوجههم وسكاكينهم/ بل وحين، بكل دناءة قلب، كنت أجرؤ على التألم من طعناتهم/
الآن، الآن وقد رحلوا وتطهّروا من قداسات أنفسهم/ أغفر -لهم- دناءة عينيّ وقلبي، واستميحهم المعذرة والغفران/ وحدها نفسي.. وحدها (سمحت لنفسها بإبصار النصل والتألّم من طعنة)/ وحدها.. لأنّها، إذ كان العمى هيناً وممكناً،/ أبصرت ما لم يحسن إبصاره، وتألّمت مالم يكن لائقاً تألّمه/ وحدها، وحدها، لأنّها أبصرت وتألّمت../ لها دوام الجحيم/ وعليها ألف لعنة ولعنة/.
وبعد، أسأل: أي النصين، بعد القراءة، سنأخذه إلى صدورنا غمراً بالذراعين؟.
Hasanhamid55@yahoo.com