ثقافةصحيفة البعث

ومن الإعجاب ما “هوس”..!

نجوى صليبه

كنتُ في الصّف السّادس الابتدائي عندما سمعت الرّاحل صباح فخري مصادفةً، تحوّلت بعدها إلى مستمعة له ولغيره من مطربين أصيلين لم يبقَ منهم إلّا القليل، وكانت صديقاتي وأصدقائي في المدرسة والحيّ على علم بهذا الحبّ العظيم.. كبرنا وكبر الحبّ وبقي السّؤال ذاته: هل ما تزالين على العهد؟ وأجيب: حبّي صادق لا يغّيره الزّمن.

مرّت السّنوات والتقيت أخيراً الرّاحل في إحدى النّدوات الثّقافية.. مضت ساعتان وأكثر كانتا بالنّسبة لمعجبة قديمة دقيقة من الحاضر وحياة طويلة من  الماضي. انتهت النّدوة وبدأ الحضور بالتقاط الصّور التّذكارية معه بكلّ احترام، لكني بقيت في مقعدي سعيدةً برؤيته.. كبرنا ونحن نحبّ هؤلاء المطربين والفنانين باحترامٍ يليقُ بهم وبفنّهم، وكانوا يبادلوننا الحبّ حبّاً والاحترام احتراماً من خلال ما قدّموه من فنّ أصيل ومن خلال أحاديثهم المهذّبة في لقاءاتهم التّلفزيونية التي نادراً ما أساؤوا فيها لأحد من زملائهم على خلاف ما يجري اليوم. وفي المقابل كان المحبّون والمعجبون كذلك، إذ يوثق الإعلام الفني معجبي أمّ كلثوم وعبد الحليم حافظ بظرافة لا بخطر وخوف، نذكر منهم سعيد الطّحان أشهر معجبي أم كلثوم الذي حضر أوّل حفلاتها في شبابه عام 1935، وهو صاحب جملة “عظمة على عظمة يا ست”، و”تاني والنّبي يا ست أنا جايلك من طنطا”، وكان يقول إنّه يشعر أنّه بمفرده في الصّالة وأنّها تغنّي له وحده، ولقب حينها بألقاب كثيرة منها “مجنون كوكب الشرق”.

ومثل أم كلثوم، كان للعندليب الأسمر معجباته الكثيرات، ويذكر في حواراته إحداهنّ، يقول إنّها كانت تتّصل بشقيقته بشكل يومي لتسألها عن الطّعام الذي سيتناوله لتطهو مثله، الأمر الذي أضحكه وعلّق عليه حينها: مسكين زوجها اضطر أن يسير مثلي على نظام غذائي خاصّ، ولاسيّما في فترات مرضي، ومقابل هؤلاء المعجبين الظّرفاء والحوادث اللطيفة، نجد عكسها تماماً في مراحل لاحقة، نذكر مثلاً ما حصل مع الفنّان راغب علامة في أواخر التّسعينيات، إذ تعرّض لإطلاق نار من أحد معجبيه أثناء إحيائه حفلاً في المملكة الأردنية الهاشمية، وأصابت إحدى الرّصاصات قدمه ونقل على إثرها إلى المستشفى. حينها صرّح علامة: إنّه أحد المعجبين بفنّي، وأعرفه بالشّكل لأنّه التقط صوراً تذكاريةً كثيرةً معي.

وعلى ما يبدو يرتبط تعبير المعجبين بشخصيّاتهم المفضّلة بما يشاهدونه من دراما وكوميديا وتراجيديا وتكنولوجيا أيضاً، إذ صرنا نشاهد فتاةً تحارب لتصل إلى المسرح وتهجم على المغنّي “من غايب علمه” وتعانقه وتقبّله وتذرف دموع المفارقة لولدها أو المقابلة له وكأنّه عائد من الموت، تتشبّث به وكأنّها “في عزّ العجقة” تظفر بحافلة الرّكاب، لينبري أخيراً لنزع “قنديل البحر” هذا حرّاس شخصيّون بعضلات مفتولات خجلين من أن يلمسوها وتصبح القضية أكبر من ذلك.

وللأسف الشّديد، صارت هذه الحوادث تتكرّر بشكل غريب، فبالكاد يمرّ حفل مرور غنائي “على خير” أو من دون “مهووس” كما يطلق عليهم أطباء نفسيّون مصطلح “الهوس بالمشاهير” أو “عبادة المشاهير”، وهي حالة تعلّق غير طبيعي بشخص مشهور وتتبع أخباره والبحث الدّائم عنه ومحاولة التّواصل معه ورؤيته وتقليد شخصيته وطريقة كلامه وأسلوب لبسه، ويعدّ هوس المشاهير أكثر شيوعاً بين المراهقين، ويأخذ أشكالاً مختلفة في مستويات الخطر، فنرى مراهقاً خضع لعمليات تجميل ليصبح صورةً طبق الأصل عن فنّانه المفضّل أو فنّانته، نذكر مثلاً أحد المعجبين بالمغنية مايا دياب الذي أصبح صورةً عنها وظهر إلى جانبها في أحد إطلالاتها التّلفزيونية، كما يعتمد مراهقون آخرون على إيذاء أجسادهم ليعبّروا للفنّان عن حبّهم مثلما فعلت إحدى المعجبات بإليسا، إذ نشرت مقطعاً تصويرياً على مواقع التّواصل الاجتماعي وهي تحفر بأداة حادّة عبارة “إليسا بحبك” على جسدها لترّد الأخيرة وتطلب منها التّوقّف عن إيذاء نفسها وتقول: أعرف كم تحبيني وأنا أحبّك كثيراً، لكن إيذاء نفسك لن يساعدك في إثبات وجهة نظرك.. توقفي فهذا يزعجني ولا يريحني.

وإن قلّصنا الدّائرة أكثر، نذكر في عام 2008 أقام مطرب وملحن عربي حفلة في أحد فنادق دمشق وحينها من كثرة ما ارتمت عليه الفتيات، قال لهنّ: شو ما في رجال عندكم؟ لكن حينها لم يكن الـ “فيسبوك” بهذا الانتشار وكان الإعلام بعيداً عن مهاتراته ويحترم العادات والتّقاليد ويعدّ بثّ هذه الصّور أمراً معيباً، نتحدّث هنا عن الإعلام العام والخاصّ على السّواء، لكن اليوم لا تكون النّشرة الفنّية ناجحة إن لم تتابع هذه التي صاروا يطلقون عليها “تريندات” وهذه الفوضى التي تحول دون إنهاء الحفل حسب برنامجه ووقته، كما قال مؤخراً المغنّي ناصيف زيتون في حفله الذي أقيم على مسرح قلعة دمشق: خلونا نكفي الحفلة.

ولا يرتبط الهوس بأهمية المغنّي وقيمته الفنّية أبداً، فقد شاهدنا في الشّهور القليلة الماضية حالات غريبةً عجيبةً وصلت إلى الإغماء، والمقصود هنا “أولاد اليوتيوب” وأولاد آخرون أحبّوا الغناء وسجّلوا كلاماً كيفما كان وتلقّفه مراهقون مثلهم لا رقابة عليهم، أمّا نحن فسمعنا بهم فجأةً واستضفناهم في أماكن لها قيمتها الثّقافية والتّاريخية، أماكن غنّى على مسارحها كبار المطربين السّوريين والعرب، وتبقى مبرراتهم موجودة وأهدافهم معروفة من شاكلة “الجمهور يريد ذلك” ويقصد بـ”الجمهور” هؤلاء  المراهقين الذين كبروا على الـ”فيسبوك” وفي غفلةٍ من أهاليهم، فعوّضوا جوعهم العاطفي بحبّ هذا الفنّان وملاحقته عبر وسائل التّواصل ليصبح الاثنان في دائرة الخطر الآنيّ على الأقل.

مع ذلك، نقول إنّنا في سورية ما يزال الهوس بالفنّانين وحسب ما يصل إلينا في حدوده المقبولة.