أمريكا تؤطر نفسها كوصي على الأمن الغذائي العالمي
ترجمة وإعداد: هناء شروف
العالم في تناقض غريب، ففي حين أن أزمة الغذاء العالمية الأخيرة دفعت 345 مليون شخص إلى انعدام الأمن الغذائي الحاد، فقد ورد أن عمالقة الغذاء الأمريكيين الذين هيمنوا على المعاملات العالمية قد حصدوا أرباحاً قياسية في النصف الأول من عام 2022، لذلك من الطبيعي أن يتساءل الناس: هل الولايات المتحدة في وضع يمكنها من تأطير نفسها كوصيّ على الأمن الغذائي العالمي؟.
الأزمة هي جرس إنذار، وقد حان الوقت لإلقاء نظرة فاحصة على كيفية التلاعب بالزراعة العالمية من قبل قلّة قليلة، ما أدّى إلى جولات من أزمات الحبوب المأساوية في التاريخ الحديث.
والواقع فإن الحقيقة غير المعروفة من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، ومن أوروبا الشرقية إلى جنوب وجنوب شرق آسيا، وما الذي يزرعه المزارعون، وكيف يزرعونه، وما يأكله المستهلكون وبأية أسعار، وهذا كله يتمّ تحديده إلى حدّ كبير من قبل شركتين في الغالب من دولة واحدة هي الولايات المتحدة؟.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، أدركت الولايات المتحدة قيمة الغذاء في الدفاع عن هيمنتها العالمية، فقد صرّح وزير الزراعة الأمريكي الأسبق جون بلوك، في عام 1980، أنه يمكن استخدام الغذاء باعتباره “أعظم سلاح” في العلاقات الدولية، وحتى منذ السبعينيات كان الدعم الزراعي في صميم سياسات ازدهار المزارع الأمريكية.
بين عامي 1995 و2003، عزّز أكبر 10 في المائة من عمالقة الزراعة في الولايات المتحدة احتكارهم من خلال تلقي 72 في المائة من المساعدات الحكومية والاستفادة من تخفيض قيمة الدولار في أعقاب انهيار نظام “بريتون وودز”، بما في ذلك ثلاثة من معالجات الحبوب بالتعاون مع شركات المواد الكيميائية والبذور، حيث أسّست الهيمنة العالمية من خلال توقيع العقود مع المزارعين في العالم النامي وتزويدهم بالبذور والأسمدة والحصول على الحبوب بسعر العقد للحصول على النصيب الأكبر من الأرباح من خلال فرض إنتاج الحبوب ومعالجتها وتجارتها.
إلى جانب ذلك، فإن العديد من “الثورات” المزعومة التي أطلقتها الولايات المتحدة، شدّدت الخناق على الضحايا الضعفاء. على سبيل المثال صدّرت “الثورة الخضراء” إلى البلدان النامية بذوراً هجينة ذات معدلات تكاثر منخفضة، وأسمدة كيميائية لا يمكن تحملها، وأجبرت “ثورة الجينات” المزارعين على دفع مبلغ كبير كلّ عام لشراء بذور محورة وراثية غير قابلة لإعادة الزراعة من الشركات الأمريكية.
لقد مكّن احتكار الولايات المتحدة من جني مكاسب ضخمة بشكل مريح من كل أزمة غذائية، ففي عام 1973 ارتفعت الأسعار العالمية للسلع الزراعية إلى مستويات قياسية بعد تقلص الأراضي الزراعية، وأزمة النفط التي أثرت على إمدادات الحبوب، وكان السبب الأكثر بروزاً هو صفقة النفط مقابل الحبوب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق. في ذلك الوقت كان 95 في المائة من مخزون الحبوب في العالم تحت سيطرة ست شركات زراعية متعدّدة الجنسيات يقع مقرها الرئيسي في الولايات المتحدة، ومن خلال استغلال هيمنتها على إمدادات الحبوب العالمية وبيعها إلى الاتحاد السوفييتي 30 مليون طن من الحبوب، أو 14 في المائة من التخزين العالمي، حصلت الولايات المتحدة على النفط منخفض السعر، وعائدات تصدير الحبوب الهائلة، تاركةً باقي العالم يدفع ثمن أزمة الغذاء.
منذ بداية هذا القرن، أدّى العرض المفرط للدولار الأمريكي إلى إضفاء الطابع المالي على سوق الحبوب لامتصاص السيولة الفائضة، ونتيجة لذلك تقلّبت أسعار المواد الغذائية بشكل كبير من وقت لآخر. وبموافقة حكومة الولايات المتحدة عمل رأس المال الدولي مع عمالقة الزراعة للمشاركة في المضاربة أثناء شراء الحبوب بدافع الذعر، ساعد تزاوج الغذاء والهيمنة النقدية الأمريكية بنجاح على تصدير التضخم المحلي، وتحويل أزمات الدولار إلى الدول النامية التي تعتمد بشكل كبير على واردات الحبوب.
في أوائل عام 2020، بدأت الجولة الحالية لزيادة أسعار المواد الغذائية عندما لجأ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى سياسة نقدية توسعية لتحفيز النمو المحلي. اليوم نجد أن السياسيين الغربيين حريصون على إلقاء اللوم على الصراع في أوكرانيا بسبب الارتفاع الأخير في أسعار القمح، لكن يجادل المحلّلون بأن المضاربات المالية غير المنظمة تلعب دوراً أيضاً بالقول: “في أي مكان من 10 في المائة إلى 25 في المائة من السعر على الأقل تمليه نشاطات المضاربة غير المنظمة”.
إن إساءة استخدام العقوبات التي تستهدف تجارة المواد الغذائية لا تساعد بالتأكيد، ففي 28 تموز 2022 عندما سئل المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس عن صفقة الحبوب التي وقعتها أوكرانيا وروسيا وتركيا والأمم المتحدة، حثّ روسيا على تنفيذ الصفقة ورفع الحصار المفروض على أوكرانيا بسرعة، لكن ما لم يذكره هو التأثير المدمّر للعقوبات التي تقودها الولايات المتحدة على صادرات الحبوب الروسية.
في منتصف أيار الماضي، حذّرت الولايات المتحدة 14 دولة معظمها في أفريقيا المنكوبة بالجفاف وبعضها يواجه مجاعة محتملة من شراء القمح من روسيا، بل إن قانون مجلس النواب لمكافحة الأنشطة الروسية في أفريقيا هدّدهم بعقوبات ثانوية، وهنا أشار خبراء التنمية إلى أن الالتزامات الإنسانية للولايات المتحدة لم يتمّ الوفاء بها، وأن ردّ الفعل العنيف على العقوبات ينتشر في أفريقيا.
بغضّ النظر عن كيفية تطور الوضع في أوكرانيا، فمن شبه المؤكد أن المزيد من الصدمات يلوح في الأفق دون إصلاح الطريقة الأساسية لإنتاج الغذاء وتحديد الأسعار، لذلك يأمل العالم أن تتخذ أمريكا إجراءات جادة للمساعدة في التخفيف من أزمة الغذاء بدلاً من أن تكون شريكاً فيها.