ماكرون.. نهاية “زمن الوفرة” وبداية زمن التسوّل
أحمد حسن
بغض النظر عن المعلن فإن “فهم” زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للجزائر غير ممكن إلا بالعودة إلى إعلانه الأخير أمام مجلس وزرائه منذ أيام قليلة نهاية ما وصفه بـ “زمن الوفرة”، بسبب “سلسلة الأزمات الكبيرة الأخيرة، بدءاً من أوكرانيا وصولاً إلى الجفاف”.
ولأن الرجل، وكعادة أقرانه، لم يقل إلا نصف الحقيقة، فإن القول بنهاية عصر الوفرة لا يستقيم – وبمتابعة السوابق المماثلة – إلا إذا واصلنا: وبداية عصر التسوّل في ظل الظروف المستجدّة التي تمنع أوروبا، بكاملها، من استئناف عصر الاستعمار بصورته الفجّة السابقة.
وبالنظر إلى تداعيات حرب أوكرانيا ومحاولة التخلي البائسة عن الغاز الروسي، فإن المادة الأولى على قائمة التسوّل الماكرونية من الجزائر هي الغاز. عصبيته الواضحة في ردّه على من اتّهمه بذلك ووصفه لكلامهم بـ”الهراء” ليسا إلا “هراء” رئاسياً في عرف من يقرأ تاريخ الخمس مائة عام الأخيرة تقريباً ليعرف أن “الوفرة” الفرنسية خصوصاً، والأوروبية عموماً، لم تتحقق بصورتها الحالية إلا من النهب المستدام أولاً -ثروات وموارد طبيعية وبشراً- لآسيا وإفريقيا و”العالم الجديد” قبل أن يتحوّل هذا الأخير، بواسطة الغزاة الأوروبيين أنفسهم، إلى الولايات المتحدة الأمريكية أكبر ناهب في التاريخ.
استقلال الدول المستعمرة الذي حصل بنتيجة الحرب العالمية الثانية وتداعياتها لم يكن إلا شكلياً، أي علم وطني ومؤسسات محلية فقط، أما في الجوهر فبقيت دول منهوبة لمصلحة الغرب، وبالتالي استمرّت “الوفرة” المتحصّلة من النهب حتى السنوات الأخيرة حين تغيّرت الموازين ودخلت قوى غير أوروبية على الخط أبرزها الصين مقدّمة للدول المنهوبة، في آسيا وإفريقيا، خياراً آخر وهو التشبيك الاقتصادي، أي فائدة شبه متبادلة، خالياً من صورة الرجل الأبيض المحتل والمتعجرف.
روسيا أيضاً قدّمت العرض ذاته وإن بوعود اقتصادية أخفّ وبمفردات أكثر حدّة من الصين، روسيا هذه كانت قد حاولت بعد سقوط إمبراطوريتها السوفييتية التقرب من الغرب فقدّمت له “الغاز” تحديداً بأسعار ساهمت في دوام “وفرته”، ومع حرب أوكرانيا وقرار واشنطن “الإلزامي” لعواصم القارة بمحاصرة الروسي والاستغناء عن “غازه”، وبالتضافر مع موسم جفاف غير مسبوق بدأت “القلة” تغزو الغرب، وسيلحق بها بصورة مؤكدة، وعلى ما يقول موروثنا الشعبي، “النقار”، وهو وإن كان ما زال محصوراً في أروقة “بروكسل” إلا أنه لن يتأخر طويلاً للظهور إلى العلن وبفجاجته الأوروبية المعروفة.
وبالطبع فإن ما سبق قد يدفع البعض إلى المسارعة باستنتاج عن اقتراب زمن أفول الغرب، وبالطبع أيضاً هذا استنتاج مبكر، ومن يتحدّث عن ذلك بثقة يشبه من ما زال يتحدّث عن “قوة” الغرب بالثقة ذاتها، فكلاهما مخطئان، بيد أنه يمكن اليوم الكلام عن ضعف بنيوي وانحدار واضح، فما زال الغرب هو الأقوى في العالم لكنه لم يعُد قادراً على فرض إرادته بالطريقة ذاتها التي كان يمارسها منذ سنوات قليلة ماضية، هذا دليل أول. اعتماد سياسة التسوّل بدل “النهب” المباشر كعادته السابقة، دليل ثانٍ، أما الدليل الثالث فيمكن استشفافه من ملاحظة كثرة أعداد زعماء المصادفة و”الاستعراض” التي تتزايد، عادة، في هذه المرحلة من غروب شمس القوى العظمى، ذلك ما تكشفه أسماء “ساركوزي، وهولاند، وماكرون” في فرنسا ذاتها، وذلك ما يقدّمه أيضاً مثال “تيريزا ماي” و”جونسون” في بريطانيا، و”ترامب و”جو النعسان” في أمريكا.
وحتماً سيحاجج البعض بأن هذه النوعية من “القادة” طبيعية في الديمقراطيات التي تقودها مؤسسات لا أشخاص، وهذا صحيح عموماً لكنه يصح أكثر في ديمقراطيات محايدة ومنعزلة، نسبياً، مثل كندا، لا محاربة شرسة مثل واشنطن وباريس ولندن حيث لا يمكن لهذه الدلائل سوى أن تذكرنا بملاحظة “ابن خلدون” عن “تحوّل العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث”، وهذا أمر قادم.. لكن بأكلاف مادية وبشرية كبرى دون أدنى شك.