انهيار اليورو.. أي تداعيات؟
ريا خوري
شهدت الساحة الدولية صراعاً جديداً ساخناً خلال العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، كان من بين نتائجها انهيار اليورو وانخفاض قيمته ليبلغ ما يعادل دولاراً واحداً. لقد وصل اليورو إلى مستوى منخفض لم يُسجّل منذ عشرين عاماً حين طرح في الأسواق العالمية، ما ولّد انعكاسات عديدة ومتلاحقة على الاقتصاد الأوروبي، وعلى نسبة التضخم والقدرة الشرائية للمواطن الأوروبي. ووفقاً للتقارير والبيانات التي أصدرها موقع بلومبيرغ، فقد تراجع سعر صرف اليورو بنسبة تفوق 0,7% منذ بدء الحرب الأوكرانية.
وكان لارتفاع سعر الطاقة دور كبير في هذا التراجع السريع والقياسي لليورو، وفي ظل الانكماش الاقتصادي الكبير في منطقة التضخم أي في منطقة اليورو والتي وصلت إلى أكثر من 5%، مع بداية العام الحالي وهي أعلى نسبة في القارة الأوروبية منذ ثلاثين عاماً، حيث يترافق ذلك مع تزايد القلق من تطور الانكماش الاقتصادي في ظل ارتفاع التضخم النقدي وتزايد عدم اليقين بشأن استمرار إمدادات الغاز الروسي إلى القارة العجوز.
إنّ من أهم سمات الحرب الروسية- الأوكرانية هي الحرب الاقتصادية التي أدّت إلى إضعاف الاقتصاد الأوروبي بشكلٍ لافت، فقد ازدادت تكلفة فواتير الطاقة كالغاز والنفط على خلفية العقوبات التي فرضها الغرب الأوروبي على روسيا، ما أدى إلى ازدياد تكاليف المنتجات الأوروبية، وخاصة تلك التي تعتمد على الطاقة والمواد الخام المستوردة بالدرجة الأولى، وهذا أدّى بدوره إلى زيادة التضخم.
في حقيقة الأمر، ليس الصراع مع روسيا هو السبب الرئيسي لأزمة اليورو، بل كشف ذلك الصراع هشاشة وضعف العملة بشكلٍ عام، وأظهر أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير، وهي تعود إلى فكرة ظهور العملة الموحدة (اليورو)، وفقدان القدرة التنافسية الذي أعقب ذلك الظهور في عدد كبير من اقتصادات دول أوروبا، فهناك على سبيل المثال دول غنية مثل ألمانيا وهولندا والنمسا، بينما هناك دول فقيرة ليس لديها قدرة على منافسة الدول الغنية مثل إسبانيا والبرتغال واليونان وغيرها، وهذه الدول تمثل أغلبية في دول القارة الأوروبية، مما شكّل عبئاً كبيراً على اقتصاد الدول الغنية.
وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي كان يقوم بعمليات تهيئة للدول التي ترغب في الانضمام إلى الاتحاد ومنطقة اليورو، من خلال الكثير من الخطوات والإرشادات والتوجيهات حتى تبلغ الدولة المرشحة مرحلة الانضمام إلى الاتحاد، لكن كان كلّ ذلك مجرد رؤى وتنظيرات حكومية، لم تكن تلامس حقيقة الواقع، أي أن تلك الخطوات والإرشادات كانت تتلقاها الحكومة وتقوم بتطبيقها بشكلٍ مناسب، لكن آليات الاقتصاد وطرائقه ووسائله لم تكن قادرة على زيادة الإنتاج، بسبب شحّ الموارد المادية، بل انعدامها أحياناً ما عدا موارد الضرائب، وقد تجلّى ذلك في أزمة اليونان عام 2010 والتي كشفت بشكلٍ فاضح مدى الخطورة التي تكتنف منطقة اليورو. وعلى الرغم من أن دول أوروبا الغنية، ولاسيما ألمانيا، انتبهت أخيراً وقدمت مساعدات مالية كبيرة لمنع انهيار اليونان واقتصادها وقيادتها، لكن ذلك أظهر أن اليورو غير مستقر أبداً، وأن ما حدث في اليونان، هو مقدمة لكارثة قد تطول كل منطقة اليورو!.
كما كان لجائحة كوفيد 19 دور سلبي آخر في ضرب الاقتصاد الأوروبي، فقد ظهر الوهن والإنهاك الاقتصادي في دول أوروبية كثيرة، ما اضطر الاتحاد الأوروبي إلى الاقتراض من السوق الدولية حزمة إنقاذ مالية تبلغ قيمتها سبعمائة وخمسين مليار يورو، وقد أسهم هذا المبلغ في وقف الانهيار قليلاً، غير أنه لن يكون قادراً على تحقيق النهوض الحقيقي في الاقتصاد الأوروبي بشكلٍ شامل، لأن غالبية الدول الأوروبية تعاني من الديون الهائلة المتراكمة، كما تعاني العديد من الدول الإفلاس الحقيقي لكنها بقيت مستمرة بموجب آليات الاقتصاد الأوروبي ومنهجه، غير أن الرافعة الأساسية التي تقود باقي الروافع، وهي رافعة الاقتصاد الألماني القويّ، قد وصلت إلى نهاية قدرتها على امتصاص الصدمات وتلك الأزمات التي باتت تتفاقم بشكل متسارع، وباتت مرشحة لمزيد من الخسائر الفادحة غير المحسوبة.
اليوم وبعد أن انكشفت حقيقة البنى الاقتصادية الأوروبية، وضعف اليورو وهبوطه، وخاصة أمام الدولار، فإن الاتحاد الأوروبي الموحّد لن يبقى اتحاداً موحداً، بل سيشهد العالم خروج العديد من الدول من الاتحاد، وقد كانت بعض القوى الفرنسية قد ألمحت إلى ذلك، بل إن الاتحاد الأوروبي نفسه قد ينتهي وتعود أوروبا دولاً متفرقة كسابق عهدها تتناحر فيما بينها، وربما لن يطول ذلك في ظل الأزمة الخانقة التي يعانيها الاقتصاد الأوروبي، ووقوع العديد من الدول الأوروبية بين قوة مطرقة روسيا الاتحادية من جهة، وقوة سندان مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في أوروبا من جهة أخرى.