خليل صويلح في “احتضار الفرس”.. خلاصة سنوات سوداء
أمينة عباس
حضر الموتُ بقوةٍ في رواية “احتضار الفرس” للكاتب خليل صويلح والتي احتفت دار ألف نون مؤخراً بتوقيعها. وبيَّن صويلح في تصريح لـ “البعث” أنها أكثر رواية حقيقية بالنسبة له لأنها تخصّ موتَ والدتِه، وتلخّص الرحلة التي قام بها باتجاه الجزيرة لزيارة قبرهما، تلك الرحلة التي كشفت له ما فعلتْه الحربُ في كلّ الأمكنة التي مرَّ بها، وقد وجد أن الموتَ يحاصرها من جميع الجهات، مؤكداً في الوقت ذاته أن من الصعب وصف الرواية بأنها تسجيلية أو وثائقية، وقد تجاور فيها الوثائقي بالخياليّ، وكذلك هي ليست سيرة ذاتية، وإن اعتقد بعضُهم ذلك فلأنه دائماً يكتب بضميرِ المتكلم، مع تأكيده أنه قد يستحضر في كتاباته جزءاً من سيرتِه ولكن بما يحتاجه النصّ الذي يكتبه انطلاقاً من اهتمامه بالموضوع والخريطة الأوسع أكثر من الخريطة الذاتية له. وقال إن الكتابة لديه بشكل عام هي خليط يضمّ جزءاً من سيرته وحياتِه وخياله، وأنه من المستحيل أن يكون المؤلف بعيداً عن النص في نظرته ورؤيته، وبالتالي فهو دائماً موجود في كتاباته، ولكن ليس كسيرة ذاتية كاملة، وفي هذه الرواية كان الراوي صحفياً ثقافياً، والسردُ يتعلق بشؤون ذاتية وهو من صلبِ عملِ الراوي برأيه، وأن القارئ سيجد فيها الكاتب حاضراً أكثر من أي مرة أخرى لا ليكتب سيرته الذاتية بل سيرة بلد.
ويؤمنُ صويلح أن الكتابة موقف وشهادة عن مرحلة عاشها الكاتب وتعبّر عن موقفه، وبالتالي لا يستطيع أن يكون محايداً، وأن الكتابة بالنسبة له نوع من الضماد وعلاج من كوابيس عاشها، فأتت مرحلة كتابة “احتضار الفرس” نوعاً من الامتصاص للجراح الداخلية التي أصابته في فترة الحرب، والتي بدأ الكتابة عنها في روايته “جنة البرابرة” التي كانت الأولى له خلال الحرب، وتابع الحديثَ عنها في “احتضار الفرس” التي تناول فيها عشر سنوات سوداء مررْنا بها، وكانت – كما وصف صويلح – رحلة سردية تضمّ مشاهداته من الجزيرة السورية إلى الجنوب السوري، مسجلاً تأثيرَ التنظيمات التكفيرية عليها ومكابدات الراوي وما حدث للبلد عبر حكايته، مشيراً إلى أن كتابة الرواية تستنزفه كثيراً، فهو يعيش مع الشخصيات أكثر مما يعيش مع الناس الذين يفقد التواصل معهم.
ولأن الحكاية وحدها لا تكفي في الرواية، يهتمّ صويلح بالرافعة اللغوية لها، والنتيجة النهائية التي يخرج بها عند الانتهاء من كتابة أي رواية أنه لن يعيدَ التجربةَ ثانية، وأنها ستكون الرواية الأخيرة لإحساسه أنه استنفد طاقته، ولكن ما يشحنه فيما بعد ليكتب رواية ثانية عبارة أولى يكتبها سرعان ما تتدحرج لتصبح رواية. فقبل يوم من كتابة “احتضار الفرس” لم يكن يفكر بالكتابة، لكن تدوين عبارات في صفحة ونصف وهو جالس في أحد المقاهي جعله يتابع الكتابة دون أن يكون لديه شيء مسبَق حول الشخصيات ومصائرها، حيث إن الكتابة هي التي تقوده إلى ذلك، وهي التي تحدّد نهايةَ روايتِه، مؤكداً أن الصدقَ جزء أساسي من عمل الكاتب، وأنه عندما يكتب لا يفكر بالرقيب، وأن روايته “احتضار الفرس” فيها تجاوز للكثير من الخطوط الحمراء.
وعبر صويلح عن شكره لاتحاد الكتّاب العرب الذي سمح بتداول الرواية دون أن يشطب عبارة واحدة، وهذا أسعده كثيراً، منوهاً بأن طموحه كروائيّ هو تقديم قفزاتٍ جديدة في السرد أكثر ما تعنيه الحكاية داخل الرواية، فروايته عن الحرب غير مكتملة، برأيه، لأن تدوينها لا يقوم به راوٍ واحد، فكلّ راوٍ لديه قصته عنها، وكل قصة تتجاور لتشكل المشهدَ بالعموم، وهو لا يستطيع تقييم روايته الجديدة لأن النقاد هم من يشيرون إلى الإضافات التي قدّمها فيها، وأن سبب تلقّف القارئ والوسط الثقافي لرواياته أنه يكتب بصدقٍ وجرأة، لذلك تجد صدى عند القارئ التي يجد فيها ما يرغب أن يقرأه.
وفي تقييمه للمشهد الثقافي، عبَّرَ صويلح عن رؤيتِه السوداوية، خاصة في ظلّ نسخ إلكترونية متشابهة، حيث أصبح البحث عن الترند هو الغاية، ودور المثقف – برأيه – انتهى، ونحن نعطي المثقف في بلاد تعيش حروباً ومعارك دوراً أكبر مما هو في الواقع.
أدب الرحلة
ورأى الناقد سامر محمد إسماعيل أن خليل صويلح اعتمد في هذه الرواية على أدب الرحلة، فسار السردُ فيها حسب منعرجات الطريق زمانياً ومكانياً ليأخذ القارئَ إلى أزمنة متباعدة من خلال رحلة ممتدة بين القامشلي ودمشق، مبيناً أن السيرة الذاتية واضحة في الرواية، وخاصة ما يتعلق بمسقط رأس الكاتب في منطقة الشدادي، جنوب الحسكة. وتمكّن صويلح، برأيه، من أن يعكس صورةً حقيقية وواقعية، وربما تسجيلية عن الأمكنة التي مرَّ بها، معتمداً على العجائبية حيث الرحلة الذهنية بموازاة الرحلة الفيزيائية من الحسكة إلى رأس العين إلى عفرين، وصولاً إلى معرة النعمان، ومن ثم يقطع طريقاً ذهنياً متخيلاً بين دمشق وتدمر، ليطلّ من خلال هذه الرحلة على ماضي هذه المدينة، وكيف كانت قبل أن تهاجَم من قبل التنظيم الإرهابي “داعش”، وكيف قام هذا التنظيم بقتلِ العالِم خالد الأسعد ونهب كنوزها ودمّر أهمَّ آثارِها. ومن ثم يطلّ على معلولا وصيدنايا، وصولاً إلى دمشق.
وأكد اسماعيل أن صويلح حافظ بخبرتِه في الكتابة الروائية على متنٍ روائيّ متدفق، وبإيقاع متين وبأحداث مفاجئة تخصّ الشخصيات التي كانت تجالسه في الحافلة، وأحداث أخرى كانت تمشي بموازاة بعضها في منعرجات ذهنية وإطلاق العنان للمخيلة لعدم التقيّد بسيرِ الرحلة مادياً، مبيناً أن هذه الرواية لها خصوصية لدى الكاتب كونها تنبع من أحداثٍ حقيقية واقعية عايشها الكاتب الذي ذهب إلى مسقطِ رأسه بسبب وفاةِ الأم، وقام بدمجها مع صوت الراوي الذي استخدمه صويلح كذريعةٍ لمتابعةِ سردِ الأحداث، موضحاً أن ما يفاجئه في كتابات صويلح هو القدرة الدائمة على تخليق أحداث جديدة والاستفادة من البعد التاريخي والحضاري للمنطقة والإفادة من عمله كصحفي محترف في جعل اللغة رشيقة وجذّابة ذات إيقاع منضبط، وأيضاً الاختزال والتكثيف الذي يحرص عليه دائماً في تقديم رواية بعيدة عن الشطط وعن الاستطالة السردية.
فلسفة الموت
وأشار الناقد موسى أسود “الذي قرأ الرواية أكثر من مرة” إلى أن الاحتضار هو الموت، والفرس برمزيتها هي الجغرافية السورية بتجليات ومنعكسات السنوات العشر الأخيرة من الأحداث، والرواية من حيث النصّ والبناء الفنّي والشكل تشكل نقلةً نوعيةً بالنسبة لأعمال الكاتب السابقة رغم أن كلّ أعمالِه لم تخرج عن نطاق المسألة والجغرافية السورية، مشيراً إلى أن صويلح من الروائيين القلائل في سورية الذين لم يغادروا المكان وأوجاعه، وروايته “احتضار الفرس” تقود القارئ في كلّ صفحة إلى طرحِ الأسئلة على كلّ المستويات بأسلوبِ الواقعيةِ السحرية الذي يقارب عالم ماركيز لكن بشكل يقارب الجغرافية السورية. ولم يخف أسود أن الرواية إشكالية، بسيطة ومركبة في الوقت نفسه، وتحدّث صويلح فيها بذاكرة العقد الأخير لكنها تمتد لعقود لأن ما حصل هو تجليات ومنعكسات لما قبل، وكان العنصر الطاغي فيها هو فلسفة الموت، فكلّ شيء يحتضر ويموت، لذلك هي رواية مؤلمة ومختلفة عما سبق وأن كتبه الكاتب من حيث الشكلِ الفني والبناء والمضمون، لتبقى ضمن المسألة السورية والموت المتشظّي.