صباح الورد والخريف والقلعة والود
غالية خوجة
صباح الخير حتى في الليل، كلمة تجدّد الطاقة وتجعلنا نشعر بأن النهار بدأ الآن، فكيف إذا كانت متناغمة مع الورد والودّ؟ كلمتان طيبتان نبدأ بهما يومنا الذي تتعدّد فيه كلمات التحيات ومنها السلام عليكم، لما فيها من طمأنينة وسلام، وكذلك تفعل كل كلمة حلوة مثل المحبة والنجاح والدعوات الطيبات. وهذا الصباح بأنغامه الممتزجة مع رائحة القهوة والياسمين يساهم في تغيير أمزجتنا ونظرتنا للحياة رغم صعوباتها، فيجعلنا نبدأ مع شمس جديدة لنتعطّر بالجمال والخير والعطاء والتعاون والأمل والمحبة.
صباحكم ورد وودّ مع بداية خريف يقترب ليساقط أوراق الشجر، ويذكّرنا بأننا مجرد أوراق ستتساقط يوماً مقدوراً ما، مما يشجعنا على المزيد من زراعة الورد لتظلّ سيرتنا معطّرة بسيرة الود. وردٌ لجميع مواليد هذا الشهر الذي تغني له فيروز “رجع أيلول”، ليرجع تفاؤلنا مع رذاذ المطرة الأولى ورائحة الأرض والمكان والغيوم ثم تتسلّل إلى أنفاسنا وقلوبنا وندعو لمن يبس العشب على قبورهم وفي قلوبهم، ثم عاد ليستيقظ بأحلامه الخضراء، وذكرياته التي لا تذبل. الأوراق تتساقط مثل الأيام، وتفرح جاذبية الأرض بما تقبض عليه، إلاّ أن شجرة الزيتون تتحدى هذه الجاذبية، وتصنّف ضمن الأشجار دائمة الخضرة، لكن لأمي رأياً آخر، يعرفه المتألمون الصابرون المردّدون بحكمة لمثلنا الشعبي: “الشي مو بهرّ الورق، القلب من جوّا احترق”، أي أن الحزن والألم لا يكون بالمظاهر والدموع وأي تعبير ظاهري آخر فقط، بل الألم والبكاء بصمت، لدرجة أن القلب المحترق يبكي دامعاً لكن بلا دموع!.
الصابرون الصامدون المحترقة قلوبهم يبصرون الأمل أكثر من غيرهم، وينتصرون على آلامهم ويردّدون على مرّ الوقت: صباح الورد. وتحية الصباح الجميلة تردّدها قلعة حلب مع أصوات شهدائها وجرحاها، فتجيبها الزرقة المطلة علينا من الأعلى صباح الورد والوطن يا شهداء وجرحى الوطن. كأن المتنبي الصادح بقصائده الخالدة، سمع صباح الخير من حجارة القلعة، ثم فوجئ بأصوات أقرب إلى أصوات الجلبة، فركض إلى سيف الدولة باحثاً عنه، وحدث أن صادفَ في أروقة القلعة أبا فراس الحمداني، فسأله: ما هذه الأصوات؟ هل هناك حرب قريبة؟ وعندما خرجا من القلعة لم يجدا حرباً، بل رأيتهما وحدي من بين هذه الجموع المزدحمة حول القلعة، بينما كنت أتمشى، وكانا مرتبكين، فسألتهما: ما بالكما؟ فسألني المتنبي: هل هناك حرب جديدة؟ فأجبته: انتصرت حلب، وسورية على الحرب الإرهابية. فسألني وهو يبحث عن مصدر الصوت: إذن، ما هذا الضجيج الذي في القلعة؟ فأجابه أبو فراس الحمداني: الآن فهمت، إنها حفلات معاصرة أيها الشاعر. حينها، سألني المتنبي بغضب: ألا يوجد في زمنكم مجالس ثقافة وعلم ومعرفة وشعر؟ كنت حزينة جداً، فتأمّل بصيرتي وأضاف قائلاً: وهل هربتِ من هذا الضجيج مثلنا؟ ثم..، اختفى الشاعران اللذان لا يظهران إلاّ لمن ارتبط قلبه بالقلعة وكأنه أحد حجارتها، فلا تسقطه الجاذبية ولا فصل الخريف ولا يحتمل الضجيج والتلوث البصري والسمعي والروحي.
يا الله، ليتني أستطيعُ الاختفاء مثلهما، لكنني مثل شجرة الزيتون قلبي يبكي لهباً، والصباح يحب الورد، واليونسكو تحب الآثار الإنسانية، فلا تسمح بارتياد الآثار للكثير من الناس لكي لا تؤثر أنفاسهم في بنيانها وتماسكها فتفسدها، وتقصّر من عمرها، فكيف حين تكون هذه الآثار مثل قلعة حلب الفريدة النادرة؟.
صباحكم قلاع جميلة واقتلاعات جميلة وورد وودّ وقهوة ومحبة وشجرة زيتون من أهم صفاتها “لا”، لأنها الدواء لكلّ داء حتى لو احترق جوفها فهو يضيء، وتظلّ لا شرقية ولا غربية.