صورة المثقف في مسرح سعد الله ونوس
آصف إبراهيم
ربما لم يهتمّ الكاتب المسرحي المثير للجدل سعد الله ونوس لأمر المثقف ودوره الريادي في التحولات التاريخية التي شهدتها الأمة العربية، وسعى لتوظيفها مسرحياً لإطلاق وتصدير مواقف سياسية واجتماعية راهنة، لكن محاولات العديد من النقاد والدارسين إخضاع مسرحيات ونوس لمحاكمات وتأويلات ترتبط بالدرجة الأولى بقراءات واجتهادات تأخذنا بعيداً إلى تأويلات ووجهات نظر شتى، منها ما هو غنيّ وصائب ومنها ما هو استعراضي لا قيمة مضافة له.
وفي هذا المنحى تخوض الناقدة الدكتورة رشا ناصر العلي تجربة رسم صور متعدّدة للمثقف في محاضرة قدمتها ضمن نشاط رابطة الخريجين الجامعيين في حمص وحملت عنوان (أزمة المثقف في مسرح سعدالله ونوس)، وهو عنوان ينفصل عن المضمون الذي يركز على استعراض ودراسة ثلاث مسرحيات لونوس هي: “منمنمات تاريخية”، و”سهرة مع أبي خليل القباني”، و”يوم من زماننا”، لاستنباط صور متعدّدة للمثقف فيها، مع تركيز لافت على النص الأول الذي تناول صورة المفكر والفيلسوف ابن خلدون التي يخضعها ونوس لمحاكمة درامية مستعيناً بوثائق تاريخية تدين موقف ابن خلدون من غزو تيمورلنك لبلاد الشام وتأييده الآراء الموافقة على تسليم دمشق دون قتال، وتصفه الدكتورة رشا بالحيادية والمهادنة والاستسلام، إلى جانب صورة المثقف الحالم المنفصل عن الواقع التي تمثلها شخصية أبي خليل القباني رائد المسرح العربي الذي قاوم الأفكار الظلامية وتحمّل كلّ أشكال الرفض لإنجاح مشروعه المسرحي، وهناك شخصية المثقف الثائر والتي تعيدنا إلى شخصية المدرس فاروق في مسرحية “يوم من زماننا” الذي يثور ضد الفساد المستشري بالمجتمع وينتهي به الأمر إلى الانتحار، والأمرُ المشترك بين تلك الشخصيات أياً كان نوعها برأي الناقدة رشا العلي هو الاصطدام، الاصطدام بالمجتمع، بالسلطة، بالآخر، بالحقيقة وغيرها، واللافت في تمثل ونوس صورة المثقف أن التاريخ كان ملازماً له.
تطرحُ العلي مجموعة تساؤلات حول اختيارات ونوس وتأويلاته في نصي “منمنمات تاريخية”، و”سهرة مع أبي خليل القباني”، إذا كان المثقف هو الذي يمتلك المعرفة والفكر والقيمة، فإن تحققه كمثقف مرتبط بدوره، واستحضار شخصيتي ابن خلدون وأبي خليل في هذين العملين مكثف دلالياً بوصفهما نموذجين لصاحب المعرفة؟، ولماذا لجأ إلى التاريخ لتمثل صورة المثقف، وسبب اختياره لشخصيات تاريخية إشكالية، ترتبط بفترات صراع دامية في تاريخ الأمة، القباني في فترة الاحتلال العثماني، وابن خلدون فترة الغزو التتاري؟. وترى أن الغاية من وراء كلّ ذلك هو رواية الواقع من خلال التاريخ والتعمّق في رؤية القوى الحقيقية تتصارع في تشكيل الواقع، والأمر الثاني هو قدرة هذه الشخصيات والأحداث على إفراز الدلالات والقيم الاجتماعية والإنسانية، وقدرتها أيضاً على طرح تساؤلات مفتوحة حول الفرد والجماعة والتاريخ والعالم، هو لم يصورهما بمعزل عن الإطار السياسي والاجتماعي والتاريخي الذي وجد فيه، لكن الاختلاف كبير بين موقف ونوس من الشخصيتين، حيث لم يخفِ إعجابه بشخصية القباني وكفاحه لإرساء دعائم المسرح في بلاد الشام، ويوثقه بصورة المثقف الطليعي، في حين يوثق ابن خلدون بصورة المهادن الذي يتفق مع تجار دمشق وأعيانها على تسليم المدينة من دون مقاومة، وهو الأمر الذي يستهجنه ونوس ويعبّر عنه من خلال شخصية شرف الدين تلميذ ابن خلدون المفترض، والناطق بلسان الكاتب. ومن خلال ذلك تستطرد المحاضرة في دراستها لتتناول الصراع بين التيارات الاجتماعية والسياسية داخل مسرح ونوس، والثنائيات الفكرية المتصارعة في “منمنمات تاريخية” تحديداً، لتختم دراستها عن المثقف في مسرحيات ونوس مع شخصية فاروق المدرّس الذي يفشل في مقاومة الفساد المستشري بالمجتمع فيقرّر إنهاء حياته منتحراً ترافقه زوجته ومحبوبته!
دراسة قيّمة أخذتنا عميقاً في قراءات وتأويلات مهمّة لنص أدبي مكتوب ومجرد بعيد عن جماليات المسرحية الدرامية على الخشبة والاجتهادات الإخراجية.
يُذكر أن الدكتورة رشا ناصر العلي أستاذ مساعد في كلية الآداب جامعة البعث وعضو اتحاد الكتّاب العرب، لها مجموعة من الدراسات والمقالات النقدية المنشورة في عدد من الدوريات العربية.