الاحتواء الأمريكي المزدوج بداية لتغيير النظام العالمي
عناية ناصر
عندما قام الرئيس جو بايدن بتحديث سياسة الاحتواء الأمريكية إلى سياسة الاحتواء المزدوج، أي الاحتواء المتزامن لروسيا والصين عبر أزمة اخترعها في أوروبا (أوكرانيا)، و في آسيا (تايوان)، لم يكن يعلم بايدن أو إدارته أن هذا يمكن أن يمثل بداية عملية يمكن أن تغير النظام العالمي الحالي بطرق لم نشهدها من قبل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبطريقة غير متوقعة، كان وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر دقيقاً في تنبؤاته عندما قال:” إن الولايات المتحدة على حافة الحرب مع روسيا والصين بشأن قضايا نحن مسؤولون عن ظهورها دون أي إدراك لكيفية نهايتها أو إلى أين يمكن أن تؤدي”.
لقد قدمت الحرب في أوروبا بعض المكاسب للولايات المتحدة، حيث لا توجد دول أوروبية تفكر الآن بنشاط في إنشاء بنية تحتية أمنية أوروبية صارمة كبديل لحلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة، ومن المرجح الآن أن يبقى هذا السؤال خارج جدول أعمال الاتحاد الأوروبي لسنوات عديدة قادمة، ولكن ماذا عن بقية العالم، وخاصة الدول التي كانت حليفة للولايات المتحدة منذ عقود؟.
لقد لقنت الحرب في أوروبا – وخاصة كيف تديرها الولايات المتحدة – عدداً كبيراً من هذه البلدان درساً لن تنساه في كيفية تكيفها مع الحقائق المتغيرة للنظام العالمي، حيث تعكس سياساتهم ثقتهم المتزايدة بحقيقة أن النظام العالمي في حالة تغير مستمر، وأن هناك حاجة إلى إقامة شراكات بديلة جديدة، ويتجلى هذا بشكل أكبر في سعي السعودية والإمارات المتحدة المتكرر، إلى جانب العديد من الدول الأخرى، للانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون.
تشير العديد من التقارير إلى اتخاذ العديد من الدول مساراً بديلاً بشأن الحرب الدائرة في أوروبا، وإلى استعداد العديد من دول الخليج لأن تصبح “شريكاً في الحوار” لمنظمة شنغهاي للتعاون التي تتطلع إلى توسع كبير، مما يعني أن هذه الدول قد اتخذت بالفعل قرارات حازمة لرسم مسار عمل لا يؤدي إلى واشنطن.
إن اتخاذ الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة هذه القرارات يُظهر أنه لا يوجد كثيرون في العالم، باستثناء أوروبا ، يؤمنون حقاً برواية الولايات المتحدة عن روسيا والصين على أنهما “قوتين تعديليتين” مصممتين على “تدمير” ما يسمى بالنظام القائم على القواعد. في حين أن حقيقة الأمر، وليس من الصعوبة بمكان على الدول غير الغربية فهمه، أن الصين برزت كقوة عظمى من خلال التزامها بالقواعد ذاتها، وضمن المعايير للنظام الذي وضعته الولايات المتحدة بعد عام 1945.
يذكر أن الرئيس الصيني قد أشاد بهذا النظام في خطابه عام 2017 في المنتدى الاقتصادي العالمي في “دافوس”، حين أشار آنذاك أن مفتاح نجاح الصين هو القرار الواعي الذي اتخذته القيادة الصينية منذ عقود بالاندماج مع الاقتصاد العالمي، حيث يعتبر الاقتصاد العالمي، وفقاً لـ شي، حقيقة وأي محاولة لعرقلة أو إيقاف تدفق رأس المال، والتقنيات، والمنتجات، والصناعات، والأشخاص بين الاقتصادات هو ببساطة أمر غير ممكن .
ليست الهيمنة الأمريكية فقط هي المشكلة، ولكن الطريقة التي تمارس بها واشنطن هذه الهيمنة لابتزاز البلدان هي التي أصبحت مشكلة، فهناك قلق متزايد داخل الدول بما فيها الخليجية في أعقاب رفض هذه الدول دعم الولايات المتحدة في حربها ضد أوكرانيا، بل هناك خشية أن تقوم الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على دول الخليج أو تجميد أصولهم أيضاً، مثل قيام الولايات المتحدة بتجميد أصول قيمتها مليارات الدولارات تعود ملكيتها للروس في أعقاب الحرب في أوكرانيا.
لذلك، هناك كل الأسباب التي تجعل هذه البلدان تلجأ إلى دول قوية تقف إلى جانبها، إضافة إلى أن وجود حلفاء عالميين أقوياء يمكن أن تمنح هذه الدول إمكانية الوصول إلى نظام خارج نطاق العقوبات الأمريكية. على سبيل المثال، في 16 آب 2022، عرض وزير التنمية الاقتصادية الروسي، مكسيم ريشيتنيكوف، على الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون الإنضمام إلى نظام الرسائل المالية “إس بي إف إس”، المكافئ الروسي لنظام “سويفت”، والذي هو جزء من محاولة روسية لكسر الهيمنة الأمريكية، وقدرتها على عزل أي دولة عن نظام”سويفت” في أي وقت تريده.
ختاماً، إن منظمة شنغهاي للتعاون هي التي تتوسع، وليس مجموعة الدول السبع التي تقودها الولايات المتحدة، ومع توسع المنافس العالمي لمجموعة السبع الآن، فهذا يعني أن مركز الثقل العالمي يتغير أيضاً، وأن العديد من الدول العقلانية تستجيب لهذا التحول “التكتوني” وسيحذو الكثيرون حذوه قريباً، مما يضاعف من الانتكاسة الجيوسياسية للولايات المتحدة، ويحقق توقعات كيسنجر للنتائج المجهولة للولايات المتحدة.