مجلة البعث الأسبوعية

“البور” يأكل أرضنا الخضراء .. محاباة المستوردين وخطط “الزنقات” هجّرت الفلاح وصحّرت الأراضي

البعث الأسبوعية – ميس بركات

يبدو أن معادلة الاستقرار خلال السنوات الأخيرة تنفرد بطابع عكسي، لاسيّما مع ما نشهده من هجرة للفلاحين إلى المدن للعمل في ورشها ومطاعمها ومنشآتها التي تفتح ذراعيها لليد العاملة “بغض النظر عن الخبرة” للعمل فيها بأدنى أجور، إذ لم تعد الأرض الزراعية  تُطعم صاحبها الذي غلبه الجوع وراح يبحث عن أدنى الأجور ليسد رمق أسرته تاركاً خلفه أرضه يأكلها “البور” على عين الجهات المعنية التي خسرت الرهان مرات ومرات في تحقيق العدالة للفلاح والابتعاد عن محاباة التجار والسورية للتجارة، لتكون هجرة الفلاحين إلى المدن اليوم سيدّة الموقف!

شمّاعة جديدة

ومع عجز الحكومة عن إيجاد مخارج للأزمات الزراعية الجمّة التي تُعاد وتتكرر في كل عام رغم الاجتماعات والخطط المسبوقة والآنية والتي لا تضيف إلى جعبة الواقع الزراعي سوى المزيد من الخسائر، كان خيار التخلّي عن الأرض الزراعية حلاّ للكثيرين ممن انقطعت بهم السبل في تأمين قوت يومهم، في المقابل لازالت القلّة القليلة تتمسك بخيوط الأمل التي تبثها الجهات المعنية عبر وسائل الإعلام وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي من جهود تُبذل لتسويق المحاصيل وتأمين المبيدات والسماد وغيرها من أساسيات الزراعة، لتكون الشمّاعة الجديدة عند الوقوع في الخسارة هي “الجفاف والواقع المناخي” الذي نتعرض له خلال العامين الأخيرين وما نتج عنه من تدهور في هذا القطاع، في حين يؤكد الفلاحون أن الواقع المناخي أثّر على الزراعة بشكل لا بأس به، إلّا أنه ورغم توفر المياه في الكثير من الأرياف “مياه جوفية”  لكن “مأساة” الواقع الكهربائي تحول دون سقاية المزروعات وعلى الرغم من مناشدات الفلاحين الكثيرة لزيادة حصة الأرياف من ساعات التغذية الكهربائية أسوة بالمناطق الصناعية إلّا أن الرد يأتي بالوعود المعسولة!

.

مصائب قوم ..

وبعيداً عن المنعكسات السلبية الزراعية والاقتصادية التي خلّفها هجرة الفلاح من الريف، فقد حصد سكان المدن “لقمة عسل” من هذه الظاهرة، لاسيّما بعد ارتفاع أجور عمال القطاف في المواسم الزراعية إلى أكثر من 50 ألف في اليوم الواحد نتيجة فقدانها وهجرتها، لاسيّما مع استمرار البعض بزراعة الأراضي والحفاظ عليها من قبل مالكيها المغتربين ممن تركوها بعهدة أحد ضامني الأرض للعناية بها بغضّ النظر عن الربح أو الخسارة تحت بند الحفاظ على الإرث، ليجد موظفو الدولة من سكان المدن ضالتهم المادية خلال المواسم الزراعية التي تسد الفجوات المتراكمة بين رواتبهم الخجولة والمتطلبات المعيشية التي لا ترحم، ليكون التخلي عن الوظيفة بإجازات شهرية والعمل في مواسم القطاف فرصة يُحسد عليها من يحظى بها.

فاتورة مضاعفة

ولم يُنكر أهل الخبرة الجهود المبذولة والاجتماعات الاستعراضية تارة والجدّية تارة أخرى “لترقيع” ما بقي من قطاع الزراعة على قيد الحياة، إلّا أن المشهد العام للقطاع الزراعي وبحسب ما أكده مصدر في وزارة الزراعة ينبئ عن تراجع دوره في دعم الاقتصاد الوطني بعد ترك الكثير من الفلاحين والمزارعين أراضيهم واستبدال عملهم الأساسي ببدائل أخرى، رافضاً إلقاء اللوم في تراجع هذا القطاع وهجرة الفلاحين وترك رزقهم فقط على سنوات الحرب وما خلفته من تخريب للأراضي والآلات الزراعية، فالكوارث الطبيعية المتلاحقة أثرت على إنتاجهم وهددت استقرارهم، وفشل التخطيط وعدم وجود رؤى مستقبلية لإخراج هذا القطاع من أزماته المتكررة، وسوء إدارة الموارد الموجودة ضيّقت الخناق على الفلاحين ، ناهيك عن رفع أسعار المستلزمات الزراعية وتركهم عُرضة لتحكم تجار السوق السوداء أثناء الزراعة وتحكم السورية للتجارة بهم في موسم القطاف، الأمر الذي ألزم معظم الفلاحين بالتوّجه إلى قطاع الخدمات والأعمال الحرة ابتغاء مصادر رزق آمنة من الهزات الاقتصادية.

خطط “الزنقات

في المقابل وجد الدكتور الاقتصادي “اسماعيل مهنا” أن التغيرات المناخية والجفاف الذي يضرب المنطقة أدى إلى خلخلة زراعية أثرت سلباً على الحياة الزراعية والاقتصادية والاجتماعية بالضرورة، إضافة إلى الخلخلة الواضحة في التوّزع السكاني العشوائي الذي بات جلياً  خلال السنوات الأخيرة لاسيّما مع استقرار سكان المناطق الشرقية في المدن والذين تعتبر أراضيهم خزان “الغذاء السوري” وعدم عودتهم إلى مناطقهم رغم عودة الاستقرار لهذه المناطق، ناهيك عن انضمام فلاحي أغلب المحافظات إلى سرب الهجرة والاستقرار بالمدن بعد فقدانهم الأمل بالزراعة، ولفت مهنا إلى خطورة استمرار نزوح الفلاحين وعدم إيجاد مخارج لأزماتهم التي ستُفضي في المستقبل القريب إلى استيرادنا لمنتجات الزراعات المحلية من الخارج، وهذا أمر خاطئ لذا لابد من إعادة اليد العاملة إلى تلك المناطق من خلال وضع خطط علمية وفنية واضحة لمواجهة التغيرات المناخية ونقص المستلزمات الزراعية ووضع تأمينها بسعر مناسب هدفاً أساسياً للحكومة كوننا بلد زراعي، وتحدث الخبير الاقتصادي عن خطورة الحلول الآنية الإسعافية الفاشلة التي تضعها الحكومة عند “الزنقات” والتي تودي بالفلاح وأرضه إلى التهلكة، مشيراً إلى أهمية أن تكون الخطط الموضوعة مستقبلية اقتصادية وبيئية وتنموية، وبالتشارك مع المنظمات والهيئات الدولية المعنية لتقديم الدعم الفني والخبرة اللازمة.

انهيار القطاع

كذلك لم يُخف الخبير التنموي “أكرم عفيف” إمكانية تعرض جميع القطاعات للخسائر بما فيها القطاع الزراعي، فالفلاح قبل الحرب كان عُرضة لخسارة موسم أو أكثر، لكن الفرق في خسارته بين الماضي والحاضر تصل إلى ملايين الليرات لاسيّما وأن  تكلفة الدونم كانت بين 15-50 ألف ليرة أما اليوم فتكلفة الدونم وسطياً تتخطى ال700 ألف فما فوق، عدا عن أن حاجة الأسرة الريفية كي تأكل من أرضها كحد أدنى هي40 دونم بتكلفة 28 مليون ليرة، وهذا الأمر من المستحيلات في ظل غياب عملية تمويل الإنتاج الزراعي وعدم قدرة المصرف الزراعي والجمعيات الفلاحية على توفير البذار والسماد المطلوب، بالتالي فإن تكاليف العملية الزراعية هي أحد أسباب انهيار القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، وابتعاد الفلاحين عن العمل في المجال الزراعي، وقدّم الخبير التنموي مثالاً عن الخسائر الحيوانية بارتفاع تكلفة تربية البقرة اليوم  لتصل إلى 25 ألف ليرة يومياً، كذلك تصل تكلفة تربية البكاكير إلى 15 ألف يومياً و5 ملايين سنويا، في حين تباع بـ 4 مليون، ليكون خيار بيعها للذبح هو المرجّح أمام الفلاحين، وألقى عفيف اللوم الأكبر على وجود خطأ كبير في تفكير صاحب القرار الذي يستسهل التوّجه نحو الاستيراد بدلاً من الإنتاج المحلي مما أدى إلى تدمير البنية الاقتصادية في سورية بحسب قوله، مشيراً إلى أهمية دعم الإنتاج الزراعي الأسري وعدم اعتبار ما يطرحه الفلاح من منتج في السوق “مجهول المصدر” في حين ما يتم استيراده معروف المصدر تحت ذريعة التمسّك الخاطئ بالمرسوم رقم “8”.

 مصالح المستوردين

وتطرق عفيف إلى أهمية وجود إدارة  الموارد المحلية من خلال ما يسمى “إدارة الوفرة ” لا إدارة القلّة فيها، وقدم مثالاً عن خسارة الفلاح بموسم الثوم وفتح باب التصدير متأخراً ومن ثم عدم تصديره تحت حجة “عدم مناسبة شكل المادة للتصدير” وعوضاً عن وجود بدائل لتصريف أطنان الثوم كتحويله لثوم مجفف وطحنه وتصديره إلى جميع دول العالم خاصّة وأن سعر كيلو الثوم المجفف “170” ألف ليرة، تم تركه في الأراضي وتكبيد فلاحيه خسائر هائلة، لافتاً إلى أن الحلول اليوم كثيرة للارتقاء بالإنتاج الزراعي إلى المستوى المطلوب والتي تبدأ بربط الفلاحين من خلال جمعياتهم بهيئة المشروعات المتوسطة والصغيرة لإعطاء الثقة للفلاح بتأسيسه وإدارة مشروعه بنفسه، وتشجيع الجهة المسؤولة عن تطوير المنتجات الزراعية، باستخدام التكنولوجيا لزرع كافة أنواع المنتجات الزراعية في مناطق غير المناطق الأساسية لإنعاش القطاع الزراعي وتعويض خسائر المحاصيل الرئيسية أو غيابها، وغيرها من الحلول التي قُدّمت من قبل الخبراء والمهتمين الكثير من الحلول على طاولة وزارة الزراعة إلاّ أن احد لم يستجيب وتم “قتل” الفلاحين بناء على مصلحة المستوردين، ووجد الخبير التنموي أن نتائج انهيار القطاع الزراعي خلال السنوات الأخيرة كارثية، فعدا عن إقلاع الفلاحين عن العمل في الزراعة ازدادت السرقات وانهارت المنظومة الأخلاقية وغيرها من الكوارث التي بدأت تطفو على وجه مجتمعنا.