التزاور بين الأقارب والأصدقاء في أدنى مستوياته! أسعار كاوية للهدايا وصعوبة المواصلات وأجرتها يزيد الطين بلة!
البعث الأسبوعية – غسان فطوم
لم يكتفِ الغلاء الفاحش لأسعار المواد الاستهلاكية وغيرها من المواد بجعل السوريين يتقشفون إلى حد الصوم أو التخلي عن الكثير مما يشتهونه من مأكولات، ويريدونه من مستلزمات لتأمين متطلبات حياتهم اليومية، بل انعكس سلباً على العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة والأقارب والأصدقاء، فجعل التزاور بينهما في أدنى مستوياته، فاليوم بات الواحد منّا يحسب ألف حساب عندما يفكّر بزيارة أحد أفراد أسرته أو أقاربه أو أصدقائه، فأي زيارة سواء كانت تهنئة بمولود جديد أو نجاح أو “نقوط” عرسان، أو حتى مريض وغيرها من الزيارات باتت تحتاج في حدها الأدنى لخمسين ألف ليرة، هذا إذا كانت في المحيط، أما من يضطر للسفر خارج المحافظة أو حتى لحي أو منطقة أخرى فالتكاليف ستتضاعف لدرجة لا يقدر على حملها الراتب “التعبان” الذي لا يهنأ بالنوم في الجيبة لمدة يومين!.
موسم الشهادات
في حديث الشارع ، غالباً ما تشكل نتائج الثانوية العامة و الإعدادية إرباكاً للبيت السوري، رغم حالة الفرح التي تعم بيوت الناجحين، وخاصة المتفوقين منهم، فهذا النجاح يرتب على الأسر واجب التهنئة للأقارب والأصدقاء ومشاركتهم أفراحهم.
هنا لا تخفي أم مجد أنها وقعت في ورطة حقيقية أثناء نجاح أولاد إخوتها وتفوقهم بالشهادة الثانوية، مشيرة إلى أنها عجزت عن تأمين مستلزمات الهدايا لثلاثة ناجحين، ومع ذلك أصرت على القيام بواجب التهنئة قائلة “عندما تخرج ابني الوحيد في الجامعة لم يقصّر إخوتي”.
حال “أم المجد” يشبه حال الكثير من السوريين في موسم الشهادات الذي له وقع خاص في البيت ، ويبدو من الصعب التخلي عنه رغم صعوبة تأمين هدية المباركة التي كانت أيام زمان عبارة عن علبة شوكلاتة من النوع الجيد لا يتعدى ثمنها الـ 2000 ليرة “الله يرحم أيام زمان”.
مفارقات عجيبة
في عام 2011 قبل الحرب على سورية كان سعر غرام الذهب بحدود الـ 2200 ليرة سورية، وكان من يقدم “هدية ذهبية” بوزن غرامين لمولود جديد أو عروس هو شخص ميسور، ومن يشتري قميصاً بـ 1000 ليرة، أو بنطالاً بـ 2500 ليرة ويقدمه هدية لطالب ناجح في الثانوية العامة هو شخص أحواله المادية جيدة جداً ولا يشكّل له المبلغ المذكور أي عبء مادي، وبشكل عام كانت الهدايا في ذاك الوقت مقدور عليها، والزيارات بين السوريين عامرة سواء إلى البيوت أو الخروج بسيران إلى المنتزهات الشعبية والمطاعم نتيجة رخص الأسعار وتوفر المواصلات الخاصة والعامة، بل كان أغلب السوريين يمتلكون سيارات خاصة بعد التسهيلات التي قدمت للمواطنين، أما اليوم، فعلى سبيل المثال سعر غرام الذهب بلغ بالأمس 215000 ليرة سورية، وسعر البطال ذو النوعية الجيدة بـ 40 – 50ألف ليرة، وعلبة الحلويات العربية المشكّلة بحوالي 80 ألف ليرة، وقس على ذلك نتيجة موجة الغلاء التي ضربت كل شيء من حاجاتنا ومستلزماتنا، فأي شخص من أصحاب الدخل المحدود قادر اليوم على تقديم هدية من الذهب بوزن غرام أو حتى ربع غرام؟!.
ضرب من الخيال!
هنا تؤكد الدكتور هناء برقاوي أستاذة علم الاجتماع بجامعة دمشق أن الوضع الاقتصادي الصعب أثر على مستوى معيشة كل أفراد المجتمع بجميع مستوياتهم الاقتصادية وبنسب مختلفة، وترتّب عليه الكثير من الأمور أهمها التخلي عن العديد من الكماليات مثل الخروج بنزهة مع أفراد الأسرة مرة أسبوعيا، وعدم القدرة على شراء مستلزمات الأولاد من ملبس واحتياجات أخرى من أجل توفير الكثير من الضروريات التي أصبح تلبيتها ضربا من ضروب الخيال، عدا عن المشاكل الاجتماعية الأخرى التي قد تؤدي إلى خلل يصيب الأسرة عند وجود مناسبة، وهي التي لا تعرف كيف تدبر أمورها لآخر الشهر!.
أمام هذا الوضع الاقتصادي الضاغط، وبحسب برقاوي بات من الطبيعي أن تعتذر الأسرة عن حضور المناسبات على اختلاف أنواعها، لأن سعر الهدية أياً كانت حتى على مستوى علبة حلويات عربية بات كبيراً وقد يوقع الأسرة في حالة من الإرباك بين رغبتها في رد الدين الاجتماعي وبين قدرتها المادية المتدنية والتي لا تسمح لها برد الهدية التي تضاعف سعرها عشرات المرات ويصعب على الكثير من أصحاب الدخل المحدود ردها بأفضل منها كما هي العادات الاجتماعية.
حلول مجدية
وتقترح الدكتورة برقاوي حلولاً كي نتخلص من إحراج شراء الهدايا، منها: إعلام صاحب الدعوة أو صاحب المناسبة المدعوين أنهم مصدر ترحيب ويفضل عدم جلب الهدايا، وفي حال أصر المدعو على تقديم هدية يخبرهم أنه يفضل الهدايا الرمزية ليستطيع ردها في مناسبات جيدة، أيضا اقترحت “برقاوي” تنمية وتعزيز ثقافة الاعتذار عن حضور المناسبة، فالبعض قد يجد حرجاً بالاعتذار، والبعض الآخر قد لا يتقبل الاعتذار ويعتبره قلة واجب، وكل ذلك نتيجة أعراف وتقاليد بالية.
شبه مستحيلة!
ولم يتردد الدكتور رياض العجيلي بالقول أن الواجبات الاجتماعية أصبحت شبه مستحيلة لدى غالبية أبناء المجتمع السوري نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة، فالخبز والماء والدواء والمدرسة غدت الأولوية الأهم أمام ضعف القوة الشرائية لدخل المواطن، وحتى نخرج من هذا المأزق الاجتماعي بحسب الدكتور العجيلي دعا لضرورة التحلي بالموضوعية والواقعية لتقبل المعنى الحقيقي للواجب الاجتماعي، فقد تكون الكلمة الصادقة أكثر تأثيراً من هدية اشتراها صاحبها بالدين الذي سيثقل كاهله وقد يكون فيه حرمان بيته من مخصصاته، لذا يجب أن نتخلى عن المفاهيم الضيقة التي تربط قيمة الواجب الاجتماعي بقيمة الهدايا والموائد العامرة، فالواجب الاجتماعي أسمى من ذلك بكثير لأنه يعني زيادة التواصل والمحبة بين أفراد الأسرة الواحدة والأقارب والأصدقاء، وتساءل العجيلي: ألا يكفي أن مواقع التواصل الاجتماعي قطعت أوصلنا وقتلت عواطفنا وجعلتنا نطمئن على بعض من خلف شاشة صغيرة باردة؟!.
للأسف، ما سبق هو حالة طبيعية لوضعنا الاقتصادي الصعب الذي جعل كل شيء جميل في حياتنا ينكمش ويضمحل، وخاصة العلاقات الاجتماعية الجميلة التي كانت قائمة بين الأهل والأصدقاء والتي تمتاز بطقوس جميلة جداً باتت من الذكريات أو الأيام الخوالي التي نتمناها أن تعود!.