الثّقافة في عصر العوالم الثّلاثة كما يقدّمها ويوثّقها “مايكل دينينغ”
البعث الأسبوعية- نجوى صليبه
في عام 1998 صدر للكاتب “مايكل دينينغ” كتاب “الجبهة الثّقافية: مخاضات الثّقافة الأمريكية في القرن العشرين”، وفيه يرصد تاريخ الجبهة الشّعبية التي نشأت في الولايات المتّحدة الأمريكية في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي كانت للطّبقات العاملة ومثقفيها مكانة متقدّمة فيها، مبيناً دور هذه الجبهة آنذاك في المجالات الثّقافية ومناهضة الفاشية محلياً ودولياً ومساندة الديمقراطية الاجتماعية، كما يعرض الأثر الذي تركته الثّقافية الجماهيرية والحداثة، الأمر الذي يفتقده هذا الجيل والذي يذكره في كتابه “الثّقافة في عصر العوالم الثّلاثة”، يقول: مشكلة هذا الجيل تتمثّل في غياب حركة جماهيرية واسعة مناهضة للحرب..
وفي هذا الكتاب يتابع “دينينغ” ما بدأه، متجاوزاً النّطاق الأمريكي ومطلاً على الثٌقافة العالمية، مشيراً إلى مبدعين عرب أمثال الرّوائي المصري نجيب محفوظ والمخرج السّينمائي المصري أيضاً يوسف شاهين، مصرّحاً في الجزء الأوّل منه الذي حمل عنوان “إعادة النّظر في عصر العوالم الثلاثة” بأنّه غير مهتمّ بالاحتفاء بالعولمة في أدبيات الشّركات، قدر اهتمامه بالطّرق التي يعيد فيها المفهوم توجيه العمل في النّظرية النّقدية، يقول: باستطاعتنا ملاحظة هذا النّهج التّأملي الأعزل للعلماء والمنظّرين في ثلاثة مصنّفات أميركية كبرى تضع خارطة المواجهة مع موضوع العولمة غير المصنّف في أشكالٍ قوية، لكنّها متنوّعة وهناك أكثر من خمسين مساهماً في تلك المصنّفات، لذا فإنّ توصيفي سيكون محدوداً بالضّرورة لكنّه مفيد، وأوّل مصنّف هو “الثّقافة والعولمة والنّظام العالمي” الذي حرره أنتوني كينغ وهو ثمرة مؤتمر عقد في نيويورك عام 1989وعُرف بـ”لقاء نظرية النّظم العالمية بالدّراسات الثّقافية”، والمصنّف الثّاني “ثقافات العولمة” الذي حرره فريدريك جيمسون وماساو ميوشي وهو ثمرة مؤتمر عقد في كارولينا الشّمالية عام 1994 وعرف بـ”اللقاء بين الأدب والأدب المقارن والدّراسات المنطقية”، أمّا المصنّف الثالث فكان “سياسات الثّقافة في ظلّ رأس المال” وحررته ليسا لاو مع دافيد لويد عن منتدى آخر عام 1994 في جامعة كاليفورنيا ويمكن عدّه “لقاء بين الدّراسات الإثنية الأمريكية”.
ويضيف “دينينغ”: لا العولمة ولا الحداثة بالشّيء الذي يمكن للمرء أن يؤيّده أو يعارضه، فهي تمثّل محاولة لتسمية الحاضر والمقابلات التي تنطوي عليها، لكن يمكن القول إنّ لحظة العولمة بدأت بالإعلان ذائع الصّيت عن نهاية التّاريخ الذي صدر عن فوكاياما، وإن كنت أودّ أن أشير إلى وجود عديد من التّواريخ المضمرة والقوانين المضمرة في تضاعيف الأعمال المعاصرة حول ثقافة العولمة، لكن إذا كان هناك تاريخ مضمر للعولمة فهناك أيضاً موروث مرجعي مضمر، حشد من النّصوص الشّائعة في فهمنا لثقافة العولمة، مبيناً: لقد ظهر حديث العوالم الثّلاثة: الأوّل الرّأسمالي، والثّاني الشّيوعي، والثّالث النّاشئ عن تصفية الكولونيالية، أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وعلى الرّغم من التّحدي الذي قابلته به كلّ الأطراف بقي مسيطراً على تلك المرحلة، وحاول منظّرون إيديولوجيون ومحدثون من مشارب أخرى جعل الثّلاثة اثنين، لكن الثّلاثة المتباينون لم يفقدوا تماسكهم إلّا بعد تداعي الشّرق وانقسام الجنوب إلى فقراء وأغنياء، مضيفاً: في أعقاب عصر العوالم الثّلاثة أسست الخصخصة والتّحرير الرّاديكاليان للاتّصالات الجماهيرية سوقاً كونياً للسّلع الثّقافية، سيطرت عليه حفنةٌ من الشّركات التي تغطّي العالم كلّه، ولا غرو أنّ المجموعات المرجعية للثّقافة الوطنية من الأعمال الفنّية والأفلام والموسيقى والأدب قد انمحت لتصبح فكرة مجموعة مرجعية ثقافية عالمية أكثر معقولية.
وعليه، فإنّ “دينينغ” في الفصل الرّابع من كتابه يشكك بـ”أممية الرّوائيين”، يقول: القول برواية عالمية كالقول بموسيقى عالمية، أمر تحوطه الشّكوك فهي وإن كانت تشير ـ على نحو زائف ـ إلى الجغرافيا المتحوّلة للرّواية تبقى وسيلة تسويقية تسطّح تراثات إقليمية ولغوية متباينة لتدخلها في لحن عالمي واحد بحيث تؤدّي الواقعية السّحرية دور جماليات العولمة، وغالباً ما تكون صفة العالمية عنواناً فارغاً ومفتعلاً مثل الحداثة والواقعية الاشتراكية التي حلّت محلهما”، ويوضّح أنّه مع انتصاف عصر العوالم الثّلاثة 1945- 1989 بدت الرّواية ميتة مستنفدة ففي العالم الرّأسمالي الأوّل اختزلت إلى شكلانية متفاقمة الإمحال، وفي العالم الشّيوعي الثّاني جرى تحويل التّقاليد الرّسمية للواقعية الاشتراكية إلى شكلٍ من الأدب التّعليمي الشّعبي، وفي جليد هذه الحرب الأدبية الباردة تفجّرت “مائة عام من العزلة” لـ”غابرييل كارسيا ماركيز” أوّل رواية من الرّوايات الأكثر مبيعاً في العالم تأتي من أمريكا اللاتينية، وفي إثرها ظهر مفهوم جديد للرّواية العالمية وواقعية سحرية جرى تعريفها على نحو غامض.
“ما مشكلة الدّراسات الثّقافية؟” العنوان الذي اختاره “دينينع” للفصل الثّامن والذي يميل إلى النّطق به مع هزّ الكتفين، لكنّ الإجابة على هذا السّؤال تتطلب تعريفاً واضحاً للدّراسات الثّقافية، يقول: لقد أصبحت الدّراسات الثقافية اسماً جديداً للإنسانيات بما فيها من افتراض انفصال دراسة الفنون والآداب عن دراسة المجتمع، وبهذا المعنى من الأفضل أن ينظر إلى الدّراسات الثّقافية بوصفها نقد التّخصصات، مضيفاً: لقد بدأت الدّراسات الثّقافية في عصر العوالم الثّلاثة من فهم السّياسات الثّقافية من أعلى: كيف خاضت الصّناعات الثّقافية والأجهزة الثّقافية للدّولة “الحرب الطّبقية” كما كانوا يقولون عبر مداخلات ثقافية؟.
“نحن نخطئ فهم اللحظة المعاصرة، إذ سقطنا ضحية حنين إلى الثّلاثينيات من القرن الماضي، وعجزنا عن رؤية شكل العمل والثّقافة في عصر العوالم الثّلاثة”.. اعتراف يبتدئ به “دينينغ” فصله الأخير الذي خصصه للحديث عن جبهة ثقافية في عصر العوالم الثّلاثة، يقول: طوال القسم الأعظم من عصر العوالم الثّلاثة ـ أواخر الأربعينيات حتّى أواخر الثّمانينيات من القرن الماضي ـ بدا أنْ لا علاقة بين العمل والثّقافة، ولم تكن هناك جبهة ثقافية إذا استخدمنا عبارة المرحلة الأسبق لاتّحاد المنظّمات الصّناعية، بينما شهدت نهاية العقد التّاسع من القرن العشرين اهتماماً جديداً بالعمل والحركات العمّالية في عالم الثّقافة والفنون، واكتسبت كلمة “المتكاسل” معنى جديداً داخل الكليات، ونشرت مجلة “نيويورك تايمز” قصّة غلاف عن”فتيان النّقابات” ودعت واحدة من المجلات الصّغيرة في التسعينيات من القرن الماضي “بافلر” قرّاءها إلى اكتشاف حقائق حياة العمل، ونشرت قصصاً ومقالات عن النّضالات العمّالية، ومن الصّعب أن نذكر آخر مرّة وضع فيها روائي أمريكي تقريراً غير روائي عن إضراب، مبيّناً: كان هذا الثّوران في جانب منه صدى لوعد بالتّغيير في الحركة العمّالية ذاتها، لكنه بدا أيضاً علامة تحوّل أوسع في المجتمع الأمريكي، فكثير ممّن تشجّعوا بظهور ومضة من ثقافة تنتبه إلى وجود العاملين ومنظّماتهم بدا لهم أنّ هذه علامة تصالح نهاية جيل عاش الانقسام بين العمّال والمثقّفين، بين الاتّحادات النّقابية والفنّانين.
ويختم “دينينغ” الفصل الأخير من كتابه بالقول: إن كان مقيضاً لجبهة ثقافة جديدة أن تنشأ، فإنّ الأمر لن يتوقّف فقط على التّنظيم الذّاتي للعاملين في صناعة الثّقافة، لكنّه سيتوقّف أيضاً على التّضامن بين شرائح الكتّاب والفنّانين والمعلّمين والمهنيين، وهذا التّضامن لا يتحقق بمجرّد تجوّل الرّوائي بين المضربين، ولا بالتزام الباحثين والفنّانين بقرارات المقاطعة، بل بإعادة رسم الخرائط التي نحملها في ذهننا من دون وعي والتي تسمح لنا برؤية أشكال جديدة من النّضال والتّضامن في أماكن لن نفكّر أبداً في البحث فيها عن هذه الأشكال الجديدة.
يُذكر أنّ الكتاب يقع في 359 صفحة، وترجمه إلى العربية أسامة الغزولي وهو صادر عن المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب في الكويت ضمن سلسلة “عالم المعرفة” 2013.