زمن من حبّ
سلوى عباس
كما الفراشة تلاقي وردتها المنشودة بعد ضياع.. هكذا انساب إليّ صوت صديقتي نسيمات تحمل عبق أيام كنا نمضيها معاً في أجمل مراحل عمرناK حيث الأحلام والطموحات بالغد الجميل كانت عنواناً نرسمها ونزخرفها بجميل أمانينا. اتصال صديقتي أعادني بالذاكرة إلى زمن بعيد، إلى أيام الدراسة، زمن يحمل الكثير من القيم والمفاهيم التي كانت عنواناً لزمننا، والتي كان أهمها احترامنا لأساتذتنا، وإدراكنا لأهمية العلم كرصيد ينقذنا من عوز الأيام، رغم أنه كانت لنا مشاغباتنا التي لم تتجاوز حدود براءتنا، فقد كنا مجموعة فتيات التقينا في الصف الأول الإعدادي، يجمعنا حي واحد ما كان يسهّل علينا مهمة التواصل في منازلنا بعيداً عن الدراسة والمدرّسين، واستمرّ مشوارنا حتى الصف الثاني عشر، حيث افترقتُ عنهن بعد أن اخترت فرعاً يختلف عن الفرع الذي اخترنه، لكن هذا الاختيار لم يبعدنا عن بعضنا، وكنا ننتهز أي فرصة لنلتقي ونعيش فرحنا بالحياة التي لم يكن فيها ما ينغّص علينا..
كانت أحلامنا التي رسمناها معاً هي الهاجس الوحيد الذي يرافقنا في حركاتنا وسكَناتنا. وبصراحة كانت تلك الأيام هي الأجمل والأنقى في حياتنا، لأننا بعدها غرقنا في إشكالات الحياة ومتاهاتها، وذهبنا كل واحدة في الطريق الذي رسم لها، وبسبب زحمة الحياة وانشغالنا بها انقطعنا عن بعضنا، وأصبحنا لا نلتقي إلا نادراً. هذه الذكريات عشتها وأنا أتحدّث مع صديقتي التي تغيب عني فترات طويلة ثم تعاود الاتصال بي وكأن الحنين لماضينا يدغدغ ذاكرتها.
الجميل في علاقتي مع هذه الصديقة أنه في كل اتصال أو لقاء، مهما تباعدت مدّته، نلتقي ونتواصل وكأننا قد تركنا بعضنا قبل ساعات فقط، وهذا يؤكد عمق علاقتنا وصداقتنا التي نشأت بعيداً عن كل مصلحة، أو غاية إلا الصداقة نفسها، وهذا ما يؤكد صدقيّتها، ويجعلها حاضرة دائماً في أذهاننا وذكرياتنا، نعود إليها كلما ضاقت الحياة بنا، لنستمدّ منها بعض التفاؤل والأمل، ولتكون محطة ننظر فيها إلى الوراء لنرى ماذا أنجزنا، وماذا حقّقنا من طموحاتنا التي قضينا عمرنا نحلم بها.
ولا أغالي إذا قلت أن وقع هذا الاتصال كان مثل حلم يسدل عباءة الغبطة على الروح، يغيّبها في أخيلة وألوان من سماءات مضاءة بالفرح، وصور من حقيبة الذكريات تفرش اللحظات بالحنين، خاصة بعد اتساع فسحة الوقت لدي وعدم التزامي بأي عمل وظيفي يشغلني مما يتيح لي لقاء هذه الصديقة وصديقات أخريات نشتاق لعبق حضورهن ونستعيد معهن تفاصيل أيام مضت بحلوها ومرّها وأصبحت الآن برسم الذاكرة، فجميعنا هزتنا الحياة وشرّقت بنا وغرّبت، وبقيت صداقتنا ببهائها الندي تخفف وطأة ما نعيشه اليوم من تعب وضغوطات الزمن.
.. ينتهي الاتصال بوداع صديقتي لي على أمل التواصل دائماً، وأبقى أنا على حافة الحلم أسبح في محيط مرحلة من العمر كانت الأسمى والأجمل، وربما ما تحمله تلك الأيام من بساطة وعفوية تخفف عن أرواحنا بعض الوجع والاستكانات المؤلمة التي وشمنا بها الزمن، ولتبقى ذكرياتنا زوادتنا لأيامنا القادمة نستحضرها كلما اجتاحنا الحنين لزمن من حب نضيء به أيامنا. فشكراً للحياة أنها تمنحنا أشخاصاً يتقاسمون معنا رغيفها بكل نكهاته.