ناجي العلي.. ذاكرة التاريخ
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
ما بين الأمس واليوم، مرَ زمن من حزن وسواد.. زمن متشح بالقتل والدمار، وهاهي الذكرى تعود قاتمة بلون الألم الذي تركه استشهاد الفنان ناجي العلي التي تصادف هذه الأيام ذكرى غيابه والوطن العربي يعاني مايعانيه من نزف وجروح، وفلسطين التي شكلت همّه الأول تعاني ما تعانيه من صلف العدو وطغيانه، تجدد انتصارها كل لحظة عبر صمود أبنائها الذين أدركوا أن كل انتصار هو خطوة في طريق التحرير والثأر لدم الشهيد العلي وكل الشهداء الذين قضوا دفاعاً عن أرضهم ومبادئهم والتزامهم بقضيتهم العربية التي نذروا أنفسهم من أجلها.
اليوم، تحضر الذاكرة بكل تفاصيلها لتستذكر فناناً اختار الوطن حلماً قضى من أجله، فقد حمل ناجي العلي قضيته في وجدانه هاجساً مراً يجرح الروح ويدمي القلب، كان يتحدث عنها بشوق ويسترجع ذكرياته فيها وكأنه سيعود غداً، لكن رصاص الخيانة عاجله ولم يمنحه فرصة الحياة ليعيش تلك اللحظة.
نعم، إنهم يُقتلون، وهل لغير ذلك يُقتل المحاربون على الجبهات وساحات المعارك فقط،ولا يُقتل في مدينته وحارته وشارعه وبيته وفراشه الذي ينام فيه إلا الفنان الذي يعرف الحقيقة كلها ويبوح بها، في فضح المؤامرات كلها ويسقط الأقنعة ويوغر صدر الرصاصات كلها،وهو الذي تميته رصاصة واحدة فقط،ولو أنه يموت ولا يسكت، لكن الموت الممكن هو أيضاً تواطؤ ممكن مع الصمت الممكن، وهذه غاية المجازر والاغتيالات التي لم تتوقف عند استشهاد الفنان ناجي العلي، فقد سبقه الكثير من الشهداء وامتد الموكب بعده لآلاف الشهداء، ولأجل ذلك كانت المجازر، ولأجل ذلك ستستمر، فكيف نوقفها؟ كيف نوقف الرصاصة القادمة باتجاه الشهيد القادم.. هل من يقنع القائمون على مخطط الاغتيالات والقتل أننا لسنا خطرين كما يعتقدون، لعلهم يصدقون ويوقفون حكم الموت المبرم علينا بأشكاله المتعددة، الموت بالرصاص، الموت بالجوع، الموت بالتجهيل، الموت بالمؤامرات التي تسرق منا الوطن والأصدقاء والبسمات.. لاشيء يغيظهم أكثر من أن نكون أقوياء في بلد قوي، ولذا يحاربوننا ويحاربون بلادنا، وعلينا أن ندفع الضريبة مرتين.. ضريبة الحقيقة-الموقف، وضريبة الوطن- الانتماء، ولذا نموت، حين نموت مرتين، ونعرف في الثانية فقط أننا ميتون فعلاً، حين يقتلوننا في الوطن، أو يقتلون فينا الوطن.
ويحضر السؤال الذي يجر وراءه ألف سؤال: لماذا يقتلون الذي لايحمل بندقية ولايطلق عيارات نارية؟ لماذا يقتلون الذي لايصدق أنه سيُقتل حتى يُقتل؟! لماذا يُطارد ويُطارد فينا الوطن، لماذا نحن من يخطئ على الدوام وغيرنا لايخطئ أبداً؟
كل الذين شاهدوا الذي حدث سيضطرون لرواية ما حدث كما حدث، فللحقيقة شهودها على الدوام، ولها خصومها على الدوام أيضاً، وأولئك الذين يخبئون الذي يعرفونه كأنهم لايعرفونه، هم أنفسهم الذين لايحبون الثرثارين ويريدونهم أن يصمتوا إلى الأبد، حتى تظل الأقنعة موضوعة ومصانة، لأجل ذلك يقتلوننا، ومايزالون، لأننا مشاكسون ولا نطيع تهديدهم ولا إغراءهم، ولأن بلادنا جميلة وعنيدة ومشاكسة، ولا تطيع تهديدهم ولا إغراءهم.
ناجي العلي لم يكن يملك سلاحاً سوى ريشته وتلك الأفكار التي ينتقد فيها الواقع بكل معطياته، والتي ضمنها رسومه الكاريكاتورية، وقد عبّر فيها بصدق عن موقف المواطن العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص تجاه الأحداث التي يعيشها الوطن العربي، وكانت رسومه هذه بما تحمله من أفكار صادقة تقض مضاجع المتاجرين بالقضية والمتآمرين على مواطنيهم لأنها تحث على إيقاظ الضمائر النائمة، والتذكير بفلسطين المغتصبة والشهداء الذين استشهدوا من أجلها، لكن هذا الأسلوب لم يرق لهم فقرروا أن يتخلصوا منه، وكانت لحظة الاغتيال التي أصابت الجسد بينما الروح انتقلت لتخلّد في ذاكرة كل عربي، وبقيت أعماله ورسومه شاهدة على تاريخه النضالي والبطولي، ونبراساً ينير للجيل المقاوم طريق البطولة والفداء، وها هو حنظلة وصية ناجي العلي الأخيرة، قد أزهر ربيعاً من المناضلين لتحقيق الوصية والالتزام بها.. “حنظلة” الذي خلق من رحم الألم يمثل الجيل القادم بكل ماورثه من عناء وهزائم وتخلف.. إنه ضمير أمتنا الحي وصوت البراءة الطفولية الذي لا يهادن، بل يعطى الأشياء ألوانها ومسمياتها الحقيقية.