دراساتصحيفة البعث

الديمقراطية الأمريكية.. اغتراب واعتلال

عناية ناصر

ألقى زعيم حركة الحقوق المدنية الأمريكية من أصل أفريقي مارتن لوثر كينغ الابن في 28 آب 1963، خطابه الشهير “لدي حلم” في واشنطن أمام الحشد الذي شارك في مظاهرة احتجاج واشنطن والتي كانت أكبر مظاهرة في تاريخ الحقوق المدنية. تصور كينغ في تصريحاته مجتمعاً أمريكياً يمكن أن يعيش فيه السود والبيض بسلام وعلى قدم المساواة، ولا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم. ومع ذلك، وبعد مضي 59 عاماً، يبدو أن الولايات المتحدة تبتعد كثر فأكثرأكثر فأكثر عن أحلام كينغ.

يعتبر خطاب كينغ من أبرز أحداث حركة الحقوق المدنية السائدة في الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. في العقود الستة الماضية تقريباً، وبعد النضالات المستمرة لمجتمع السود، ظهر تقدم طفيف – ظاهري- في الحقوق المدنية في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد، حيث أعطى القانون للأمريكيين الأفارقة في الولايات المتحدة حقوقاً مدنية متساوية مع البيض، بينما أصبح عدم التمييز ضد مجتمع السود منذ فترة استراتيجية سياسية.

منذ ذلك الحين، تطور التمييز الصريح في الماضي إلى تمييز أكثر دقة، وما يبدو أنه مساواة ظاهرياً لا يمكن إلا أن يذكر الأمريكيين الأفارقة بمدى عدم تكافؤهم مقارنة بالأمريكيين البيض. والأسوأ من ذلك، أن القضايا التي ظهرت في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة تشير إلى أن وضع حقوق الإنسان للأمريكيين من أصل أفريقي أصبح أسوأ من نواح كثيرة، فقد أصبحت الولايات المتحدة “أكثر عنصرية” بدلاً من “ما بعد العنصرية”. على سبيل المثال، أثارت مشكلة وحشية الشرطة ضد الأمريكيين الأفارقة احتجاجات من قبل السود في السنوات الأخيرة. ومن الناحية الاقتصادية، كان لدى الأمريكيين السود، في المتوسط​​، سدس ثروة الأمريكيين البيض في عام 2019 على أساس نصيب الفرد، ولا تزال هذه الفجوة آخذة في الاتساع. إضافة إلى ذلك، سلط وباء كوفيد- 19 الضوء على عدم المساواة الهائل في توزيع الموارد الطبية وتقديم الرعاية الاجتماعية بين المجموعات العرقية المختلفة، مما أدى إلى إشعال الصراعات والشعور بالانقسام، وانعدام الثقة بين المجموعات العرقية والأعراق في المجتمع الأمريكي.

وفي هذا السياق، قال بعض الخبراء والمحللين إن ظروف معالجة القضايا العرقية في الولايات المتحدة اليوم هي أسوأ مما كانت عليه في ذروة حركة الحقوق المدنية. في ذلك الوقت، كان الاقتصاد الأمريكي لا يزال يتمتع بنمو سريع في فترة ما بعد الحرب، وكانت له اليد العليا في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي السابق.

باختصار، يمكن القول أن مشاعر متفائلة سادت في المجتمع بأسره، وكان الكثير من الناس مثاليين. لكن اليوم، على العكس من ذلك، تتراجع تلك المثالية بسبب اعتلال ديمقراطية واشنطن المتدهورة.

يبدو أن العديد من الأقليات العرقية في الولايات المتحدة تعيش في دولة حرة ومتساوية، لكن لا يمكنها أبداً الشعور بالحرية الحقيقية والمساواة، وذلك نتيجة الاغتراب المتزايد للديمقراطية الأمريكية. ووفقاً لـ جي هونغ، الباحث في معهد الدراسات الأمريكية التابع للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، فإن المجتمع الأمريكي يشهد ميلاً نحو “اليمين” بشكل متزايد، خاصة مع صعود التيار المحافظ وتفوق البيض في ظل رئاسة الرئيس السابق دونالد ترمب، وأضاف جي: “نتيجة لذلك، فإن العديد من السياسيين الأمريكيين اليوم أقل استعداداً للانخراط في الإصلاحات التي تتعلق بالمشاكل العرقية، ناهيك عن اتخاذ إجراءات، فهؤلاء الأشخاص يزعمون أنهم يدعمون المساواة، لكنهم يفعلون ذلك ظاهرياً فقط”.

إن أحلام كينغ هي أحلام مثالية وبسيطة، ولكنها أيضاً واقعية ويصعب تحقيقها،  وهي متجذرة بعمق في الحلم الأمريكي، ولكن ما دامت سيادة البيض موجودة، فلا يمكن لأي من هذه العناصر- العمل الإيجابي، أو التعبير عن الانتماء السياسي، أو التوزيع الأكثر عدلاً للموارد الاجتماعية – إزالة ورم العنصرية من العم سام. بالنسبة للولايات المتحدة، ستظل العنصرية بمثابة قنبلة موقوتة يمكن أن تحطم أحلام كينغ والحلم الأمريكي في أي وقت.

تحاول الولايات المتحدة بكل الوسائل الممكنة تبييض تاريخها القذر، والآن حولت نفسها إلى مدافع عن “حقوق الإنسان”، على الرغم من مرور أكثر من 60 عاماً منذ أن أنهت الولايات المتحدة الفصل العنصري في الأماكن العام.

لن تنتهي العنصرية في الولايات المتحدة أبداً، إذ لا يزال من الممكن الشعور بالموجات الصادمة التي أرسلها موت جورج فلويد، وأيضاً ضلوع ثمانية من ضباط شرطة مدينة أكرون  في إطلاق نار أودى  بحياة شاب أسود أعزل، تبين أنه أصيب بنحو 60 رصاصة إثر فراره من كمين مروري.