سورية تردّ
بسام هاشم
لم تأتِ تحذيرات السيد وزير الخارجية، فيصل المقداد، مطلع هذا الشهر، بما انطوت عليه من لهجة حاسمة ومتوعّدة، من فراغ، ولن تكون صوتاً في البرية.. فأن تضرب “إسرائيل” في سورية منشآتٍ ومرافقَ عامةً محرّماً استهدافها دولياً، وأن تتصرّف بكامل العربدة والثقة التامة بإمكانية الإفلات من العقاب، وبما يوحي بأن لا رادعَ دولياً يقف أمامها، وأن لا قوة بوسعها وقفها عند حدّها، فهذا ما لا يمكن أن يكون مقبولاً ليس على مستوى الدول فحسب، بل على المستوى الشخصي حتى. وهو بالتأكيد أول ما سيكون غير مقبول، وغير محتمل، من دولة عربية ارتبط تاريخها بالعداء للكيان الصهيوني، وتكوّنت جغرافيتها من خلال عمليات سلخ وقضم واحتلال متواصلة ومتمادية كانت إسرائيل الصهيونية أداتها الرئيسية.. وهنا، فإن ما يتعيّن علينا أن ندركه، قبل كل شيء هو أن كل الحروب والانقلابات والمواجهات والأزمات والتوترات وحالات عدم الاستقرار، العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، التي عرفتها سورية، طوال قرن من الزمن، على الأقل، إنما ترتبط بغرس المشروع الصهيوني في قلب المنطقة العربية، وأنه حتى المتغيّرات والتحوّلات الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية، وما تسبّبت به من موجات من الهجرة واللجوء والنزوح، وما حملته من مناقلات عشوائية وفوضوية، وانفجاراتٍ وتداعياتٍ وصداماتٍ كارثية، إنما اتصلت اتصالاً وثيقاً بالمشروع الصهيوني، وتوسّعه على اختلاف مراحل تطوّره، العسكرية والاستيطانية، والتطبيعية منذ اتفاقيات كامب ديفيد، حتى توقيع اتفاقات أبراهام، قبل أكثر من عام، بأمل الدمج النهائي لهذا المشروع في قلب المشرق العربي.
لقد تم تقسيم بلاد الشام إلى أكثر من دولة أو كيان، في سبيل إمداد هذا الكيان الإجرامي بعوامل البقاء والاستمرار، من خلال التفتيت والتجزيء، لا بل هناك من يحاول اليوم إخضاع سورية نفسها لمشاريع انفصالية للغرض نفسه، ولكن أحداً لن يستطيع أن ينكر، إذا أوقفنا هذا المنطق على قدميه، أن سورية تبقى، وإلى ما لا نهاية، الوريث الشرعي، والوحيد، لكل الجغرافيا الطبيعية التي تمتدّ عليها منطقة بلاد الشام إلى أن تستعيد وحدتها السياسية والاقتصادية والشعبية، وأنها ستبقى مؤتمنة على هذا الإرث بتضحياتها وقدراتها، ومواقفها، وعلى امتداد أجيالها المتعاقبة، كما هي معنية بالدفاع عنه، حتى في أشدّ لحظات الانكسار والضعف، وحتى لو كان ذلك من خلال ممارسة أبسط أشكال المقاومة عبر إبداء أعلى أشكال الصبر والتحمّل و”العضّ على الجرح”، وخاصة في ظل الخلل القائم في ميزان القوة والقدرة على الاستبدال والتجديد، وفي ظل الهوان الرسمي العربي، وحالة المأجورية النخبوية العربية، اللتين يتم تسويقهما، رسمياً وشعبوياً، في ظل سياسات ومواقف متخاذلة يجري الترويج لها باعتبارها خلاصة نهج “الواقعية السياسية”، كما يردّد عملاء اليوم. والحال، فلا غرابة أن سورية اليوم تبدو غريبة وغير مفهومة، وربما تصارع في المجهول.. إنها تقاتل بمفردها، وظهرها إلى الجدار، وهي تكاد تستنزف، وقد استُنزفت حقاً طوال أكثر من عقد على الحرب المجرمة والفاجرة والرهيبة التي لا يزال كل الرعاة والمتواطئين يخوضونها بشكل أو بآخر، بالعلن وبالسر. ولكن سورية لا تزال شامخة، بل هي الوحيدة الشامخة وسط هذا البحر المترامي من الركوع.. هي لم تركع، ولا يمكن أن تركع، ولن تقبل أبداً بأن يجرّها أحدهم إلى الركوع، فالصراع اليوم في منعطف تاريخي، بكل معنى الكلمة، وهو يخاض ضمن هذا البعد، وليس على مستوى التكتيك، وسورية تواجه عدواناً يتكالب عليها فيه الجميع، وهي ستردّ، بل تردّ بالفعل، وكل يوم. ولكنها، بصفتها “الدولة الأم”، وانطلاقاً من فهمها لطبيعة الصراع، تدرك أنها لا تواجه “إسرائيل” وحدها، بل تواجه مشروعاً غربياً يمدّها بأكبر وأضخم وأعقد تقنية، وبما لا يُقاس مثلاً، بما يُمَدُّ به أعداء روسيا والصين في الوقت الحالي.
ليس هناك ما يمكن لسورية أن تخسره بعد كل هذه السنوات من الموت والتدمير والتخريب الموجّه والمدروس، ولكنها ما زالت تحتفظ بإرادتها وقرارها السيد الحر، وهو ما كانوا يستهدفونه بالضبط. وكل ما يستطيعون فعله اليوم هو توجيه الضربات الجبانة وإلقاء الصواريخ عن بعد.. وبالتأكيد، ليس الأمر مقبولاً ولا محتملاً، ولكن المؤكد أيضاً أن أحداً لا يستطيع أن يمسّ عمق شعورنا بالكرامة الوطنية، فالكرامة صُنعت، وتصنع في نفوس السوريين، كل لحظة وكل وقت. ولن تكون بضعة صواريخ دعائية من صميم المزايدات الانتخابية كافية لتضع “إسرائيل” في موقف القوة، ولا سورية في موقف الممتنع عن الردّ، ولكن هذا الردّ حينما يحين فسوف يكون مزلزلاً مدمّراً وسوف يحصّل كل الديون.
معركة سورية اليوم ليست معركة خسائر.. هي أساساً معركة وعي للصراع يجب أن يبقى حياً، وفكرة لا بدّ أن تبقى متوقدة. والموت والدمار يعمّان سائر بلدان المنطقة، للأسف، رغم مصادرة قرارها السياسي.