“شتاء السخط” الأوروبي.. غضب شعبي وإحباط مرير
عناية ناصر
ألزم الاتحاد الأوروبي نفسه وبشكل جماعي بصراع طويل بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا، على الرغم من اعتماده الكبير في مجال الطاقة على واردات النفط والغاز من روسيا. ومع ذلك، من يستمع إلى كلمات كبار البيروقراطيين، مثل أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، يظنّ أنه لا يوجد أي مشكلة على الإطلاق، حيث تحدث أولئك البيروقراطيون عن تقليل الاعتماد الأوروبي على واردات الطاقة من موسكو كعملية سريعة وغير مؤلمة، وتعهدوا عدة مرات بـ”شل آلة بوتين الحربية”، وتصميمهم على تعميق الشراكة لمساعدة أوكرانيا على التقدّم في مسارها الأوروبي.
لكن الأمور لم تجرِ كما يشتهون، حيث تمكنت موسكو من تحقيق كميات قياسية من الإيرادات في صادرات الطاقة من خلال استغلال حالة عدم اليقين في السوق، وتقليل تدفق إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا، مما أدّى إلى ارتفاع فلكي في أسعار الطاقة ووضع القارة في مواجهة حالة من الأزمة الاقتصادية. والأمر الأسوأ من ذلك أن الشتاء قادم، مما يعني أن الطلب والتكاليف ستزداد بشكل أكبر. ونتيجة لهذا الوضع بدأت ألمانيا بالفعل تنفيذ إجراءات لتقنين استخدام الكهرباء، مثل المطالبة بإيقاف جميع الإعلانات الإلكترونية ليلاً، وحظر تدفئة حمامات السباحة الخاصة، والحدّ من استخدام مكيفات الهواء.
ونظراً لأن الارتفاع الصاروخي في أسعار الفواتير يؤثر على المستهلكين، تنتشر الاضطرابات السياسية والاستياء في جميع أنحاء القارة، خاصة وأن الحرب في أوكرانيا هي السبب الأساسي وراء كلّ ذلك. في جمهورية التشيك تظاهر أكثر من 70 ألف شخص في براغ ضد الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وأزمة الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا، وجاءت المظاهرة بعد يوم من نجاة الحكومة التشيكية من تصويت بحجب الثقة في مجلس النواب بالبرلمان. كما يخطّط حزب اليسار الألماني “دي لينك” للقيام باحتجاجات في جميع أنحاء ألمانيا ضد أزمة الوقود. وفي كولونيا، تظاهر أكثر من 2000 شخص مطالبين “المسؤولين المنتخبين بإعطاء احتياجاتهم من الطاقة الأولوية على حساب دعمهم لأوكرانيا”.
إن السخط الناشئ ما هو سوى غيض من فيض، والذي سوف يستنزف الزخم السياسي للزعماء في جميع أنحاء القارة، ومواصلة تأجيج الصراع دون خجل. بعد كل شيء، إذا لم يتمكن القادة الأوروبيون من إقناع شعوبهم بسهولة بالالتزام بقيود كوفيد-19 أو قبول اللقاحات لمصلحتهم، فما جدوى إجبارهم على الاستمرار في تقديم التضحيات من أجل حرب ليست لهم؟.
في الأيام الأولى للحرب، كانت الروح المعنوية والدعم لأوكرانيا مرتفعين بالطبع بسبب الصدمة الأولية والرعب من العملية العسكرية، ولكن الآن بعد ستة أشهر، من الواضح أن هذا الدعم بدأ يتآكل ويتراجع مع مرور الوقت وبدأت شعوب أوروبا تدفع ثمناً حقيقياً مقابل ذلك.
كلّ هذا تذكير بأن الأمر ليس بتلك البساطة والمخرج ليس سهلاً عندما يتعلق الأمر بـ”تنويع” مصادر التزود بالطاقة من روسيا، لأن الأسواق تعمل بمنطق العرض والطلب، وفي حال التمكن من إزالة أكبر مورد منفرد من السوق، والعثور على موردين آخرين بسرعة، إلا أن ذلك يشكل انخفاضاً في العرض الكلي وزيادة في الطلب، مما يؤدي بالتالي إلى ارتفاع الأسعار.
إن الطريقة الوحيدة لخفض الأسعار هي زيادة الإمدادات من أماكن أخرى، لكن هذا ببساطة غير ممكن، لأن روسيا هي أكبر مصدّر منفرد للغاز الطبيعي السائل في العالم. وفي حال الاعتماد على مصادر أخرى للطاقة بدلاً من ذلك، فإن هذا سيتطلب استثمارات بقيمة تريليونات في البنية التحتية، والتي ستستغرق سنوات حتى تصبح طبيعية، ولذا لا يوجد في المنظور حلّ سهل أو “حل سريع” لأزمة الطاقة.
ما يزيد الأمور سوءاً هو أن القادة الأوروبيين ضحّوا بسهولة بخط الأنابيب “نوردستريم2” نتيجة ضغط وإكراه وتنمّر طويل الأمد مارسته الولايات المتحدة، البلد الذي يحقق أرباحاً ضخمة من هذه الأزمة من خلال صادراته من الغاز الطبيعي، وهي ترفض مع ذلك المساعدة في هذا المجال. كلّ ذلك يرسم صورة قاتمة لأوروبا، التي ستواجه الآن “شتاء السخط” القاسي مع تزايد غضب شعوبها وبرودة المرارة والإحباط، والدعم اللامحدود لأوكرانيا مهما كان الثمن.