زمن الكبار
سلوى عباس
سألتني صديقتي عن سبب التعب في صوتي، وهل من سوء حصل، فقلت لها: إنها ضغوط الحياة التي لم تعد تُطاق، إضافة إلى كثرة الموت الذي يحاصرنا ويفاجئنا كل يوم برحيل ما.. تسقط ورقة من شجرة الحياة، هذه الشجرة التي تتنوّع أوراقها بشتى أشكال الإبداع، وهذه الأيام قاسية جداً في غياباتها، ضجّت بخسارات متوالية، واحدة تلو الأخرى، رحلوا وبرحيلهم نفتقد لزمن شكلوه بتجاربهم وعطاءاتهم التي حُفرت في وجداننا، وشكلت ذائقتنا الثقافية وذخيرتنا المعرفية، فأجابتني: هذه دورة حياة لكبار اجتمعوا في زمن واحد والآن يرحلون وكأنهم متفقون أن يحزموا أمتعتهم للرحيل واحداً إثر آخر بعد أن خاضوا كلّ في مجاله معارك إبداعية كثيرة، وفي كلّ معركة كانوا يفتحون نافذة نور وأمل، متمسكين بمبادئ هي الأولى في الحياة وبعدها يأتي أي شيء، تلك المبادئ كانوا ينسجونها كلّ يوم بصيغة جديدة تبعد عنها مواتها ونمطيتها لتشعّ بروح جديدة في فضاء الفكر والمعرفة.
توقفتُ كثيراً أمام حديث صديقتي وعدت بالذاكرة إلى ذلك الزمن الذي كان حافلاً بالإبداع والمبدعين الذين نظروا للإبداع في كلّ مجالاته كحالة من الشغف المهني والترف الفكري والمعرفي، ففي مجال الأدب لدينا أسماء كبيرة لا يمكننا حصرها في هذه العجالة، وكذلك الفن بمجالاته المختلفة من تشكيل ودراما تلفزيونية ومسرح، وأيضاً في الإعلام هناك أسماء كانوا رواداً، سواء في الإذاعة والتلفزيون أو الصحافة المكتوبة، فتألق هؤلاء المبدعون بعطائهم المتميز وقدّموا لنا إبداعاً متفرداً، وهذا دليل على صدق تجربتهم الإنسانية أولاً والإبداعية ثانياً، وإيمانهم بدورهم الذي لا يُستهان به في الحياة، وأنه يعوّل عليهم كثيراً في إحداث متغيرات جذرية، فالأمم بتاريخها ورجالها، والحضارات بمفكريها وأدبائها، وكلّ أمة تعلي شأن العلم والعلماء هي أمة متحضرة، لأن هؤلاء العلماء يمثلون ضمير الأمة وذاكرة أبنائها، فعاشوا حياتهم مخلصين لمبادئهم يعيشونها بحكمة لا يحيدون عنها، وهي التي أخصبت حياتهم وتركت نوافذهم مفتوحة لتهلّ عليها كلّ الرياح دون خشية منها، فانتصروا للعدالة الإبداعية والمعرفية، وكأنهم يعتمدون مقولة: “الحكمة ضالة المؤمن إن وجدها أخذها”.
إنه الموت.. هذه الكلمة التي أصبحت قيداً يدمي قلوبنا، وأصبح في كلّ يوم يرسم لنا موعداً معه، تباغتنا فجيعته من حيث لم تنتهِ التي قبلها.. كل يوم يغادرنا مبدع، وكلّ يوم نفتقد عزيزاً، فمن المفارقة العجيبة أن تبدأ الحياة بهالة من الألق لتخبو فجأة ويتبدّل كل شيء إلى سراب، ومع أن الموت هو نقطة النهاية للحياة، وهنا يكمن جوهر الموضوع، إلا أنه كما النقطة تكمل معنى الجملة كذلك الموت يكمل معنى الحياة، ومن الموت تولد حياة، فالإنسان الذي يموت يتحوّل إلى ذكرى جميلة تسكن وجداننا، ومن ينظر للحياة بعمق يرى أنه لا شيء يموت بالمعنى الدقيق للكلمة، هناك تحول مستمر للأشياء، والإنسان صورة مصغرة عن الكوكب الذي يعيش فيه، أما من حيث الفقد والفراغ الذي يتركه غياب من يغادروننا في أرواحنا، فهذه مسألة أخرى جميعنا تجرّعنا مرارتها، وفي جعبة ذاكرتنا راحلون كثر لهم في حنايا قلوبنا محبة وأوجاع لن تندمل حتى نلتقيهم، وما نتمناه أن يكون إرث هؤلاء المبدعين الكبار منارة تهتدي بها أجيال اليوم لتبقى سورية ولادة للفكر والمعرفة، ولتستمر مسيرة الإبداع بكل التميّز والبهاء لأزمان مديدة.