ظرفاء دمشق.. ملأوا الدنيا بالمرح وشغلوا الناس بالفكاهة
أمينة عباس
خصّص د. أنس تللو محاضرته التي ألقاها مؤخراً في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة، وأدار الحوار فيها د. فرحات الكسم، للحديث عن مجموعة من ظرفاء دمشق الذين ملأوا الدنيا بالمرح وشغلوا الناس بالفكاهة، وقد استوحى كلامه من ذكريات عن الظرفاء الكبار الذين عاشوا في زمن مضى ولم يتح لهم أو لفنهم أن ينتشر في وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة، مؤكدا أنهم لو عاشوا إلى اليوم لسبقوا الكثيرين من رجالات الكوميديا في العالم العربي، وهم الذين ارتجلوا النكتة في موقعها وزمانها المناسب، وقد تمكّن بعضهم من الانتقال إلى المسرح، حاملين ظرافتهم المبهجة، فانخرطوا في عالم الفن وغدوا أبطالاً في عالم الكوميديا، مبيناً أن الظرافة فن عريق قديم قدمَ الإنسان نفسه، والظرفاء هم أناس يطمئن إليهم المرء ويرغب بالاقتراب منهم والاستماع إلى نوادرهم ويحملون الظرافة في وجوههم ولهم حركات وإيماءات توحي بالبشاشة والضحك، وهناك من لديهم قدرة على إلقاء الطرف والنكات بشكل سريع ومتلاحق، لكنهم لا يبتسمون، بينما الناس الذين يستمعون إليهم يغرقون في الضحك، موضحاً أن الظريف يجذب الناس ليس لأسلوبه أو معاني كلماته فحسب، بل لأنه يملك قوة تمنحه المقدرة على أن ينفذ بحديثه وحركاته إلى القلوب والعقول، وبالتالي هو حاذق التفكير، إذ يمكن أن يقدّم طرفة في كل لحظة تتوافق مع كلّ موقف ويقدم الحلول لمعظم المشكلات ضمن إطار بليغ من الرقة واللطافة.
وبيّن تللو في تصريح لـ “البعث” أنه أراد من خلال هذه المحاضرة التأكيد على أنه يجب أن نتعلّم كيف نبتسم في وجه الآخرين ضمن إطار من التسامح والتآلف والمودة الخالصة، وأن الضحك لغة عالمية تفهمها كلّ شعوب الأرض وهو العلاج السحري للروح والجسد، وأحد أهم الوسائل لوقاية الإنسان من أمراض القلب، فهو يهدئ الأعصاب ويقوي عضلة القلب، ورياضة لعضلات الوجه.
طليعة ظرفاء دمشق
كان فخري البارودي الزعيم الوطني والمجاهد والموسيقي في طليعة ظرفاء دمشق الذين تحدث عنهم تللو في المحاضرة، حيث كانت داره القديمة في حي القنوات ملتقى رجال السياسة والأدب والثقافة والفن، يجتمعون فيها ويطربون ويسمرون ويصغون إلى النوادر والفكاهات والقصص الضاحكة، وكان البارودي يستعين برواية نوادره بالألفاظ الرشيقة المنمقة، وكان إذا ما يروي قصة أو طرفة يلجأ إلى الصوت الهادئ، وأشرك كلّ أسلحته الأخرى في التعبير، فيضجّ الحاضرون بالضحك المتواصل، بينما يظل هو يتابع نوادره دون أن يبتسم ابتسامة واحدة، وكان معه حسني تللو توءم روحه، والعجيب برأي تللو أن تللو والبارودي لم يكونا متشابهين في شيء، إذ كان البارودي عصبياً إلى درجة الانفجار، وتللو بارداً هادئاً إلى درجة الصقيع، وكان إذا تكلم سكت الآخرون وأصغوا بعيونهم وقلوبهم، فكان سيد المجالس وأميراً من أمراء الظرف، والظريف الثاني في دمشق بعد البارودي والمرجل الذي يشعل نار الضحك، وقد اشتهر في العشرينيات من القرن الماضي وحتى الستينيات منه، وكان يملك لغة فريدة في عالم الظرافة، إذ يستخدم ألفاظاً منمقة، وقد وصفه عبد الغني العطري بأنه آية في الظرف وحضور البديهة والجواب اللاذع. وأشار تللو كذلك إلى مصطفى سويد “أبو درويش” وهو من ظرفاء دمشق وعُرف ببراعته الفائقة في رواية النكات والطرف دون أن تفتر له شفة أو يبتسم، وكان يملك قدرة عجيبة على إعادة صياغة الطرف وإلباسها ثوباً جديداً من الزخرفة الممتعة تجعل المستمع يتمتّع بأسلوب الإلقاء وتتوق نفسه إلى الإطار الجديد حتى ولو حوى المعاني نفسها، وقد بلغ من قوة شخصيته وظرافتها أن الأديب حبيب كحالة صاحب مجلة “المضحك المبكي” التي كانت تصدر في دمشق في ثلاثينيات القرن الماضي قد اتخذ من شخصيته رمزاً لابن الشعب في ذلك الوقت، فكان ينشر صوره الهزلية الملونة على غلاف مجلته بأشكال ومواقف شتى ويضع تحتها تعليقات ساخرة تتناول السياسة المحلية والعربية والدولية.
أما الظريف الثالث الذي تحدث عنه تللو فقد كان أبو سليمان الجيرودي الذي كان لديه دكان في سوق السروجية، بجوار قلعة دمشق، وكان نديماً لأبناء الشعب والطبقة المتوسطة التي تبحث عن الضحكة وتتذوق النادرة وتهفو إلى جلسات السمر، وكان يروي نوادره دراكاً واحدة تلو الأخرى دون فاصل، وتوّج بلقب “شيخ النكتية”، فإذا وقف ليروي حكاية ضاحكة اشرأبت إليه الأعناق، وهفت إليه القلوب، وغدا المستمعون ينتظرون ما يُسمّى بـ “القفلة” للقصة التي يرويها حتى يضحكوا من أعماق قلوبهم، وكان يلقي النكتة بهدوء وجدية دون أن يضحك، ويوزع نظراته واهتمامه على الحاضرين جميعاً كأنه يتحدث إلى كل فرد منهم على انفراد.
في المسرح والإذاعة والتلفزيون
مع بدايات الثلث الثالث من القرن العشرين انتقلت الظرافة إلى المسرح ثم إلى الإذاعة فالتلفزيون، البيئة الحاضنة التي أظهرت ظرافة الظرفاء، وكان منهم – كما أشار تللو – عبد اللطيف فتحي الذي يُعدّ علماً من أعلام الفكاهة في العالم العربي وأشجع من صعد إلى المسرح، وكان قادراً على أن يقلد جميع الأصوات، وكانت تعابير وجهه وحدها كفيلة بأن تكون حديثاً تاماً يحوي كلّ أنواع المساجلة والمسامرة والمعاتبة والوجوم والمرح، منوهاً كذلك بأنور البابا “أم كامل” الذي كان خفيف الظل وقد تلقفته الإذاعة عام 1947، وكانت شخصية فريدة في عالم الظرافة والفن، وهي شخصية خيالية تمثل النمط الحقيقي الحيّ للمرأة الدمشقية في أواسط القرن الماضي، والتي تتمتع بحلاوة حديثها وطلاوة صوتها، مؤكداً أن أنور البابا كان بارعاً جداً في تعابير الوجه، فإذا ما بدأ حديثه افتتحه بتلك الضحكة الرنانة المجلجلة التي كانت معظم النساء يبدأن بها حديثهن آنذاك، ولا يفوته أن يوظف كلّ الحركات والسكنات لخدمة الحديث الذي غالباً ما يكون ساخراً أو ضاحكاً أو منتقداً.
وختم تللو محاضرته بالإشارة إلى ظرفاء آخرين مثل: عبد الوهاب قطرميز، رجا بك الشربجي، د.عبد الوهاب قنواتي، حكمت محسن، حبيب كحالة صاحب صحيفة “المضحك المبكي”، سعيد الجزائري ودريد لحام.