في “إعمار” الشّباب ثقافياً
نجوى صليبه
منذ فترة قصيرة اقترح عليّ أحد الزّملاء الأعزاء العاملين في مجال صحفي آخر أن أكتب عن إعادة إعمار البشر لا الحجر، وتحديداً فئة الشّباب والمراهقين، رحّبت كثيراً بالطّرح لأنّ الفكرة في بالي منذ وقت، لكنّي أجلّتها لمصلحة مواضيع أخرى هذا أوّلاً، وأمّا ثانياً فلأنّي من متابعي نشاطات الشّباب وداعميهم، وكثير منهم كنت أوّل من يلقي الضّوء على تجربته البكر، منهم من يتذكّر ذلك شاكراً وبعضهم لا يتذكّر، لذا فمن الطّبيعي ألّا يشكر، وعلى الرّغم من ذلك أقول دائماً: هذا واجبنا المهني والثّقافي، وبعض موهوبي اليوم أدباء المستقبل، وسيأتي يوم يثبتون فيه ذواتهم ويضطر الصّحفي للبحث عن أرقام هواتفهم وجوّالاتهم لكتابة خبر أو الحصول على تصريح، كما سيضطر بعض الأدباء للتّواصل معهم من أجل المشاركة في نشاط ثقافي ما.
ما يهمّ.. حملتُ الفكرة غير ساخنة وغير مبالية بآراء كوّنتها من خلال تجربتي بالتّعامل مع الشّباب والمراهقين الأصغر ومتابعة نشاطاتهم الثّقافية، وواضعةً بعض تجارب حوارية معهم – على جنب – وكنت قلت إنّي لن أكررها أبداً، ليست لأنّها فاشلة فلا رغبة لديّ أبداً بإقناع أحد برأيي أو أن يقنعني هذا الغير برأيه، لكن لمواقف غير مؤدّبة حصلت. وللأمانة لم أعتقد أنّي سأخوض تجربةً بشعةً كالتي خضتها مع طلّاب جامعيين يفترض أنّ لديهم بعض العادات الاجتماعية التي تربينا عليها، كاحترام الصّغير للكبير والابتعاد عن التّجريح بالكلام والإصغاء وقراءة الرّأي بدقّة وتأنٍ، ويفترض أكثر أنّ الجامعة والنّظام التّعليمي الذي يدافعون عنه قد علّمهم اللباقة، ولاسيّما أنّهم وأثناء النّقاش – الافتراضي – صرّحوا بأنّ بينهم من يدرس أكثر من فرع، وأنّ بينهم “دكاترة” في الآداب أو غيرها، ومثلهم فعل أحد المنتسبين إلى الرّوابط الأدبية الافتراضية، حيث لم يشعر بالخجل من “التّلطيش” في الشّارع على الرّغم من أنّنا كنّا نحضر النّشاط الثّقافي ذاته!!.
الحديثُ عن إعمار الفكر ليس بالأمر السّهل، إنّه كمن يحفر في الصّخر، وكمن يتطلّع للسّير على سطح البحر بقدمين حافيتين، ولاسيّما إن تحدّثنا عن جيل شبّ خلال سنوات الحرب على الألم والقلّة والفقد والخوف ورائحة الدّماء، وزاد الطّين بلّة أهل حاولوا إرضاءه والتّرفيه عنه بجوّالات حديثة وبإنترنت دائم ليشاهد على مدار الأربع وعشرين ساعةً ما هبّ ودبّ من مقاطع فيديو أقلّ ما يمكن وصفها بالسّخف والدّونية من حيث الصّورة والألفاظ والمواضيع، لدرجة أنّي بقيت شهوراً وأنا أتساءل عن معنى عبارة “هدّي حنش” التي يردّدها طلّاب المدارس فتيات وفتية لأكتشف لاحقاً أنّها ترد في مقاطع فيديو منتشرة على الـ “يوتيوب” أبطالها مراهقون وغالباً ما تدور حول علاقة شابّ بفتاة وغيرته وما إلى ذلك. للأسف لقد اختار الأهل مذ كان أبناؤهم أطفالاً الطّريق الأكثر سهولةً لضمان صمتهم فترةً من الزّمن ليشاهدوا هم أيضاً مقاطعهم الخاصّة ويكملوا دردشاتهم وتسلياتهم، هؤلاء الأهل هم ذاتهم الذين حين نقترح عليهم إشغال أبنائهم بورشات تعليم وترفيه في النّوادي الصّيفية المتوافرة في مناطقهم يشكون القلّة، وحين نقترح عليهم إرسالهم إلى المراكز الثّقافية الموجودة في منطقتهم يشكون بعدَ المسافة وسوء الطّقس صيفاً وشتاءً، مع العلم أنّ هناك أمّهات لديهنّ قدرة على الانتقال سيراً من محافظة إلى أخرى لرؤية حذاء نُشرت صورته على إحدى الصّفحات المتخصّصة بالتّسويق الإلكتروني، ومع الإشارة أيضاً إلى أنّ نشاطات المراكز مجانية باستثناء دورات اللغة والحاسوب واشتراكها الشّهري رمزي جدّاً والشّخص الجدّي في تطوير ذاته – ضمن الإمكانيات – ولا تسمح له ظروفه ينتظر الإعلان عن مواعيدها بفارغ الصّبر.. على الرّغم من ضعفي بالأمثال الشّعبية أجد عبارة “احترنا يا أقرع من وين نمشطك” هي الأكثر ملاءمة لحديثنا هذا!
وعليه نقيس.. في كلّ مركز ثقافي مركز بيع كتب ومن ضمنها الكتب المخصّصة للأطفال واليافعين وبأسعار رمزية جدّاً، ولكن لكي نكون أمناء في طرحنا هناك مراكز تنفد منها كتب الأطفال مباشرة، أي هناك من يهتمّ بمستقبل أطفاله ويدفعهم ويحرّضهم على القراءة ويساندهم، لكن يبقى الموجود أقل بكثير أو يكاد لا يُذكر مقارنة بالضّرورة والحاجة والمطلوب، فلو كان كذلك لما شاهدنا ما نشاهده في الشّوارع ووسائل النّقل والمسارح وغيره. ولكي نكون منصفين هنا لابدّ من التّنويه بضرورة مدّ هذه المراكز بشكل دائم بكتب الأطفال وغيرها، لدرجة يجب ألّا يمرّ يوم وفيه رفّ خاوٍ لكي لا تُفرّغ عقول أطفالنا وتُجمّد بإرادتنا وبفعلنا نحن فحسب، وهذا يقودنا إلى جانب مهمّ في القضية التي يجب أن نعدّها مصيرية ووطنية وأولوية أيضاً ألا وهو أنّ إعمار فكر الشّباب لا يمكن أن يتمّ من دون تضافر جميع الجهات والوزارات ولن أقول ووضع خطط لأنّها غالباً ما تكون موجودة في برامج سابقة ولم ينفّذ منها شيء غالباً.. لسنا بحاجة لوضع خطط جهنمية لأنّ القضية واضحة وضوح الشّمس وحلولها كذلك ويبقى علينا التّنفيذ.
حديثنا يذكّرنا بشاعرين تحدّثا عن الفتوة والشّباب كلّ على طريقته، إذ يقول الشّاعر طرفة بن العبد مفتخراً بفتوته:
أنا الفتى الضرب الذي تعرفونه خشاش كرأس الحية المتوقّد
بينما يشير الشّاعر الشّريف الرّضي إلى أخطاء يرتكبها الشّباب ويندمون عليها في الشّيخوخة حيث لا ينفع النّدم، يقول:
لا تلحُ من يبكي شبيبته إلّا إذا لم يبكها بدم
عيب الشّبيبة غول سكرتها مقدار ما فيها من النّعم
لسنا نراهـا حـق رؤيتها إلّا زمان الشّيب والهرم
كالشّمس لا تبدو فضيلتها حتّى تغشى الأرض بالظّلم
ولربّ شـيء لا يبينه وجدانه إلّا مع العدم