من تلك الآفاق
عبد الكريم الناعم
دخل صديقي وكنتُ أهمّ بإغلاق الكمبيوتر، فقال بطريقته الحشْريّة: “دعْني أرى ما كنتَ تفعل، وتقدّم دون استئذان، ونظرَ في الشاشة فشاهد صورة شخصيّة روحيّة، فاستغرب وقال بتعجّب: يا رجل صدّقني أنّك تُحيّرني، ما علاقة اهتماماتك بمثل هذه الشخصيّة”؟!!
قلت: “اجلس وسوف نتكلّم، وبعد أنْ هدأ تعجّبه قليلاً قلت له: “أنا لا يهمّني مَن هو القائل، بل يلفتني ما يقول، فالرسول العربي صلوات الله عليه وآله قال: “الحِكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها أخذها”، وإمام البلاغة يقول: “الرجل مَن يعرف الرّجال بالمقال، لا المَقال بالرجال”.
أنت تعلم يا صديقي أنّ لي ميلاً بسيطاً لقراءة الأفكار الفلسفيّة، والدينيّة، لأنّها خلاصة ما أنتجه العقل البشري، ولئن كان بعضها غير متوفّر بين أيدينا فهذا الغوغل يجيبك ولو بالمقدار الذي يريده هو، على أنّ ما يُقدَّم يظلّ ذا فائدة، والأزمنة المشحونة بالقتام وبما لا نحبّ.. تُحرّك فينا الكثير من التساؤلات، عن الأسباب القريبة والبعيدة، ونحن لا نستطيع إيقاف تساؤلاتنا لأنّها ليستْ صندوقاً فنُغلقه، بل فُطِر هذا العقل الموجود فينا على العمل الدّائم، فهو لا يتوقّف حتى أثناء النّوم فيُريك من الأحلام الغريب العجيب، وأنا كما تعرف بي ميل للروحانيّات، وهذا كان منذ أن بدأت أتلمّس معاني الحياة، في وقت باكر من عمري، وقرأتُ ما تيسّر لي من كتب الصوفيّة والفلاسفة المسلمين، ومررتُ ببعض ما تركه فلاسفة الغرب، فاستوعبتُ ما استطعتُ استيعابه كقارئ هاوٍ، لا كمحترف، ولفتَني صحّة القول أنّ العلماء الغربيّين قد سافروا بعيدا في اكتشاف قوانين الطبيعة، وسخّروا ذلك لصالح الابتكارات الصناعيّة المتتالية المدُهشة، وحقّقوا في ذلك نجاحات باهرة، من أجل مزيد من تحقيق الثروة، وأفلحوا في ذلك، بيد أنّ هذا أبعدهم، عدا قلّة منهم، عن الحاجات الروحيّة للإنسان، وعن تساؤلاته التي بدأت معه منذ بدء الخليقة حتى الآن، كلّ مرحلة تفرز تساؤلاتها الموازية لتقدّمها.
غرَقُ العلماءُ الغربيون فيما هو ماديّ، قابله غرَق آخر في الهند وما حولها، حيث الروحانيّات تحوّلت إلى سلوك، والمفاهيم تحوّلت إلى تسليم، وفي ذلك ما فيه من ظلم بشريّ أوقعه البشر ببعضهم نتيجة فهم معيّن، وكان بعض المتألهين المسلمين قد تمكّن من إقامة التوازن بين ما هو روحي، وما هو ماديّ فكريّاً، أو نظريّاً على الأقلّ، ولم ينعكس ذلك على حياة الناس العامّة، على عكس ما حدث في الهند مثلاً، في الوقت الذي يحدّد فيه الحديث المعروف “اعملْ لدنياك كأنّك تعيش أبدا، واعملْ لآخرتك كأنّك تموت غداً”… يحدّد خطة التوازن بين ما هو روحي وما هو مادي، هذه الروحانيّة التي غابت عن المجتمعات الغربيّة إلاّ فيما لا يُذكَر.
وأنا أحببتُ أنْ أطّلع على أقوال هذه الشخصيّة ، بعيداً عن المواقف السياسيّة، وإليك بعض مايقوله: “هدف الدّين أنْ تسيطر على نفسك لا على الآخرين”.
ويقول: “السعادة ليست بالشيء المصنوع الجاهز.. إنّها تأتي نتيجة لأفعالك”.
وقد سُئل ما أكثر ما يُدهشك في الكون؟ فأجاب: الإنسان، لأنّه يضحّي بصحّته من أجل المال، ثمّ يضحّي بالمال من أجل استعادة صحّته، وهو قلق جداً عل مستقبله لدرجة أنّه لا يستمتع بحاضره، يعيش كأنّه لن يموت أبداً، ولكنّه يموت كأنّه لم يعش أبداً”.
وله قول لافت وهو: “ليس العالَم بحاجة لمزيد من النّاجحين، وإنّما العالَم بأمسّ الحاجة لصانعي السلام، للمُعالِجين، للمصلحين”.
ويقول: “الحبّ والرحمة من الضروريات وليس من الكماليات، فبدونهما لا يمكن للإنسانيّة أن تستمرّ الحياة”…