“سرقة مياه السماء”!
أحمد حسن
قد يعتقد البعض أن هذا عنوان مثير لقصة خيالية، أو حتى تهمة حقيقية، لفرد أو مجموعة بشرية ما، أصدرها “زعيم” قبلي ما في عصور ما قبل التاريخ، وحفظتها لنا الطبيعة كي نفهم منها بالمقارنة تطوّر الوعي البشري عبر التاريخ، لكنه، للأسف، عنوان حقيقي لتهمة معاصرة يواجهها أهالي الجولان السوري المحتلّ في عصر الحداثة وما بعدها والنظام الدولي الحرّ لعالم القرن الحادي والعشرين!
لكن كيف تتم هذه السرقة الخطيرة وممن؟ فذلك ما يجيب عليه جهابذة “إسرائيل” القانونيون بالقول: إن الجولانيين، أصحاب الأرض كي لا ننسى، يقومون – بعد أن سرقت إسرائيل مياههم الطبيعية وحرمتهم من استغلالها – ببناء خزانات لتجميع مياه المطر الهاطلة – من السماء – واستغلالها في زراعة أراضيهم وسقايتها، وهذا أمر خطير جداً يخالف قوانين المحتلّ الإسرائيلي الذي يعدّ هذه المياه السماوية حقاً حصرياً له!
والحال، فإن ما سبق قد يبدو نوعاً من الفانتازيا السياسية، وهذا، في جوهره، أمر صحيح، لكنه، وهذا الأهم والأخطر، نتاج عادي وطبيعي لـ “الفانتازيا التاريخية” التي قامت عليها فكرة “إسرائيل” بكاملها، أي كذبة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، كما قيل يوماً لنا وللعالم الذي صدّق بعضه هذه الكذبة عن قناعة إيمانية ساذجة، وصدّقها بعضه الآخر عن حاجة ملحّة، ووجد فيها بعضه الثالث ما يمنحه فرصة للخلاص من “المسألة اليهودية” التي وجد ذاته مضرّجاً بدمائها وغارقاً بعار أفران غازها من جهة أولى، ويقدّم له، من جهة ثانية، فرصة زرع “إسفين” خارجي في قلب الشرق المعذّب وبناء مخفر متقدّم للمشروع الاستعماري الغربي في المنطقة.
بيد أن ذلك كله كلام نظري، بينما الواقع يقول: إن أهل المنطقة بأسرهم وعلى رأسهم أهل فلسطين هم من يدفع ثمن هذه الفانتازيا، ولكن آخر تجلياتها الغريبة يدفع ثمنه اليوم أهل الجولان السوري المحتل الذين بدأت “إسرائيل”، ومنذ مدة، بالتحضير لسرقة مزدوجة لرياحهم ولأراضيهم الزراعية المملوكة لهم منذ فجر التاريخ تحت عنوان تنفيذ مشروع “الطاقة البديلة” الذي لن يعود “خيره” إلا على المستوطنين الغرباء وليس على أهل المنطقة الأصليين.
لكن الخطير في ذلك ليس “الخير” الذي سيعود على المستوطنين فقط، بل كون المشروع يمثّل تهجيراً ممنهجاً لأهل المنطقة بغطاء بيئي كاذب، أو كما قال كاتب سوري، “هذا أحد أوجه العدوان على الجولانيين وأراضيهم ومستقبلهم فيها، من ضمن المخطَّط الأوسع لإفراغه من سكّانه الأصليين”، ذاك الذي ابتدأ منذ لحظة الاحتلال وترسّخ مع قرار الضمّ المشؤوم والمخالف لكل القوانين والشرائع الدولية.
والحال فإن السياسة الاستيطانية الإحلالية هي جوهر فكرة الكيان الغاصب، وأهم ركائزها “محاربة عناصر صمود أهل الأرض وعوامل بقائهم”، وبالطبع فإن الجولانيين يعرفون ذلك أكثر من الجميع ومنذ اللحظة الأولى “قرّروا مواجهة مشروع المراوح، وإطلاق الحَرَم الديني والاجتماعي على كلّ مَن يتعامل مع هذا المشروع وأدواته”، وتلك خطوة أولى ستتبعها خطوات أعمق وأبعد مدى بكل تأكيد.
خلاصة القول، توجيه تهمة “فانتازية” مثل “سرقة مياه السماء” ليست دليل قوّة أبداً بل دليل ضعف وانحدار في المشروع “الإسرائيلي” ناجمَين عن ضعف في المشروع الاستعماري الأصلي الذي يتعرّض اليوم لضرباتٍ قاسية في مناطق عدّة ستكون لها نهايتها الحتمية حكماً، والجولانيون، الذين يعون ذلك جيداً، يبدون في كل لحظة إصرارهم الكامل على استعادة هويتهم العربية السورية وأرضهم وسمائهم ومائها أيضاً، وذلك يوم ليس ببعيد.