الشاعر علي الناصر بعد 52 عاماً على مقتله.. الجاني ما زال مجهولاً ودوافع الجريمة ما زالت لغزاً
فيصل خرتش
“لم يكن يدور في خلد أحد أن يلقى الشاعر علي الناصر نهايته غيلةً في عيادته، ففي ظهيرة يوم الاثنين الأول من حزيران عام 1970 اخترقت صدره رصاصة نفذت من ظهره، وبدا أن الناصر حاول اللحاق بالجاني لكنه لم يفلح، وقد تسلّل هذا الأخير من العيادة مغلقاً الباب خلفه، ثم أحسّ الناصر بالتعب فعاد إلى مكتبه ليستنجد بالهاتف، إلا أن قواه خارت فتهالك على الكرسي، وارتمى رأسه على الطاولة، سقطت سماعة الهاتف على الأرض، وبعد عشرين ساعة، حين دعيت زوجته وابنته، وفتحتا الباب، بحضور بعض الجيران، رأوا الرجل وقد انكبّ رأسه على الطاولة، وانحدرت نظارته على أنفه، وتساقطت على الأرض بضع قطرات من دمه، دلّت على محاولته اللحاق بالجاني مسافة خطوات قبل أن يدركه التعب ويرتمي على الطاولة، وقد تولّت السلطات، حينئذ، التحقيق في الحادث، لكن الجاني ظل مجهولاً وبقيت دوافع الجريمة لغزاً محيراً”، هذا ما كتبه تقرير الدكتور بشير الكاتب عند فتح باب العيادة، وقد كان أحد الحضور إلى مسرح الجريمة.
ينتمي الشاعر علي بن محمد الناصر إلى عشيرة تسكن بادية الشام تُدعى “بني خالد”، ومنها فخذ الناصر، وتقيم أسرته في مدينة حماة، وفيها ولد عام 1896. تعلّم في الكتّاب ثم دخل المدرسة، وانتقل إلى دمشق ليتمّ دراسته فيها، وبعد ذلك انتقل إلى استانبول ليدرس الطب، وليكمل في الأمراض الجلدية والزهرية في “الكلية العسكرية العثمانية الشاهانية” وتخرج طبيباً عسكرياً في عام 1917 برتبة نقيب، وعمل منذ تخرجه في حلب، وفيها تزوج من فتاة تركية من أنقرة، أنجبت له: وائل وتيماء.
يعتبر علي الناصر واحداً من مجدّدي الشعر العربي الحديث ورائداً من روَاده، فهو الذي نظم منذ ثلاثينيات القرن العشرين “القصيدة المتحرّرة من قيود بحور الخليل”، “لأنه حين نظم شعره على هذا الشكل لم يكن يريد أن يبدع مذهباً جديداً في النظم، بل كان يريد أن يعبّر عن إحساسه الخاص بطريقة خاصة، فكانت تلك القصيدة”. هذا ما كتبه الدكتور عبد السلام العجيلي في مقدمة ديوان “اثنان في واحد”.
حين أصدر ديوانه الأول “قصة حب” عام 1928، كان أول شاعر يحطّم وحدة البيت الشعري وأوزانه، وعزّز ذلك في ديوانه الثاني “ظمأ” عام 1932، ويعدّ في طليعة التجارب الحداثية العربية، “إذ وجد في الموزون والمقفى قيوداً للقريحة، والشعر لديه ما هو إلا انفجارات عفوية تصدرُ عن الذهن والنفس في حال من الوعي واللاوعي”.
لقد سبق في ريادته الشعرية نازك الملائكة والسياب، وهذا ما أشار إليه أمين الريحاني في مقدمة ديوانه “ظمأ”. وديوان “سريال” الذي كتبه مع أورخان ميسر، هو محاولة مبكرة لمقارعة الشعر السريالي وتأصيله عربياً بعيداً عن تجارب الأوروبيين، يقول: “قدمي تمشي، تمشي لا أثر لها، يشتعل اللهب، تسرع وتسرع، لا سبيل للإبطاء، سراب في متناول اليد، أبعد من البعيد، قدم تسرع ملتهبة ذرة من رماد”.