موائد الشغف.. في تعويلات انتصار سليمان
رائد خليل
ظلّت تفرش لنا من قبس الشكّ فيض أنامل وأختام يقين.. ورغم وعورة المعنى في أحيان كثيرة، وعدتنا الشاعرة انتصار سليمان بهدنة عاطفية.. كيف لا، وهي الواقفة على أطلال البوح في مرثيات الشمع حيناً، وابتهالات الصمت حيناً آخر.
لا يختلف الطيف في تعويلاتها عن مآثر النارنج وعن حنينها إلى رغيف عشقها، فأشعلت بيادر الصمت، واستعارت بلاهة سكونه، وانطلقت من أحلام النيام صرخة مدوية في جنبات القصيدة، مصبوغة بهمهمات الغموض، لتقدمه لنا فطيرة بنكهة الفوضى.. إذ أكدت حضورها كـ(جحافل الهمس تسوقه)، ثم تبدأ بالغواية..!
تعانق الشاعرة أفق المفردات بكل جماليتها ووقعها وانتمائها إلى كل خطوة في وجه سفالة الحياة، معلنة حضور الجمال بكل امتداده اللوني وإيقاعه المشتهى.. متخذة قرار معانقة الضوء لتفتح لنا باب الومضة التي تساوي انتماءنا لذاكرة اللهفة، فيطوّقها الحنين بحبل سري علني معاً.. موصول بحروف لا قيود لها..
(كان الوقت يقترف ابتسامة.. حين استدرجني لإشعال البروق).. وتقتات من جرار فضائها الشعري المعتق وَشْمَ روحها، لتنثرها على مدار النبض والتكوين..
(يا قلب.. قد أهلكتني الغربة
هل يشفع الناقوس حين يدّق ضربات
الضياع؟)
ولم تنس أن تحرس الزمن، فقد عوّلت كثراً على تفاصيل دغدغت أمانيها..
فأيقظ الغافي والمسكوت عنه..
ورماني بدلالات شتى
عوّلتُ على الشمس، أغوتني بلهيبها الأحمر
ثم.. قذفتني في ثقبها الأسود !
عوّلت على النار.. فكان الزيف في الزرقة
حديث أوجاع الحطب
عوّلت على العين أن اتبعني، ففي وصايا القلب:
النبض يطرق في صالة الروح
عوّلت على الجسد.. فأورق خريفه في صحراء
وتركني ألهج باسم الحرّ والقرّ..
تبني انتصار سليمان حولها سياجاً من التعرّف، محاولة ترصّد وملاحقة العابر واقتفاء أثره في ممرات الزمن، إذ تقف على ناصية التأمل، تدغدغ الجمال بمعايشته، وخلق حالة التوءمة بين النص الشعري والحالات المخبوءة غير المنطوقة مع خلق لغة السهل الممتنع
(من يأتيني بي
أعلقني على ناصية السؤال..
للدروب حكايا..
لن يمسها إلا الناطقون باسمي)..
ولا يخفى على القارئ في أغلب نصوصها المقدمة قلق الشاعرة من إيقاع الحياة المتذبذب بكل تناقضاتها وسوداوية اللحظة كالسابحة في هواء ثقيل، فالملل الذي قادها إلى إيقاد أضلاعها، عرفت رنته، فيممت حلم الطريق، حتى أعلنت وقوفها في وجه روحها حين غادرتها شموسها..وهذا التصاعد العاطفي الذي رسم أقصوصة وتشكيلاً نداء وألف صدى، وكأنها تريد أن ترسم خرائط الأمكنة بصرخات متعاقبة..تشبه لوحة الصرخة للنرويجي ادوارد مونخ.
سأجلب حرزاً من بلاد الحجاز
وصيفاً قديماً من شعاب اليمن
وخيطا رفيعاً من برد النبي
وصوتاً عميقاً من رياح الصبا
وإبرة خبيرة تحيك المدى
وأرمي بدلوي في بئر قلبك
وأعرف كيف يصير لديك
البعيد قريباً
ولا تكتفي بشمس واحدة، فهي القادرة على خلق مناخات الجوى وممارسة الهديل بديلاً عن حمامة تمتشق الدهشة..
(غداً
عندما لا تمهل شفتيّ
عندما تجرد لغتي من عباءتها
وتسقي صوتي عسل البوح
وتفرش زندك
سأهدل كحمامة
حول قفص)..
الحزن، يتجلى في دعوة الشاعرة أحياناً لوقف جنون اللحظة المبثوث، فمراراً، تعثّرت رغبتها بالنداء، ولم تنجُ من فعل الإعصار في الروح التالفة.. ولكن، لماذا باركت الشاعرة الحزن..؟
(فما زال الكثير من شجيرات الدموع
لم تقلّمها الأيام
يا ملاك الغيب
أوسعني بالعماء الكبير
فلم تَعُد الروح قادرة
على مضغ الحصى)..
مابين الحقيقة المتخيلة وعالم الانفعال عند الشاعرة، تبرز مصطلحات لطالما اعتدناها، لكن توظيفها جاء كحالة إغواء، ومعان كثيرة حبلى بأجنّة النبوءات..
أو بتوصيف أدق، انتظار صرخات جديدة بأثواب تعيد رسم المكان (ولكن قد أكون كنقطة الباء في بسملة).
ولا تخفي بعض لمحاتها استجداء الغائب، تقتات من القبل استمرارية وجودها، معلنة تمسكها بأي انبعاث عطر تركب أحلامها صهوة سواد الليل ..
وما تحمله من نقاء، ما هو إلا استجابات لنداء سوريالي الهيام.. إذ تجعل انحيازها توطئة للطمأنينة، وتطرّز لغزاً سرمدياً يشاطرها التجلّي
(أعطني شرطاً زئبقياً لوجودي
رملاً حافظاً لأسراري
كهفاً شامتاً بقواعد اللعبة
وحشة تضل الطريق
ورسالة تتخبط بصهيلك..)
وتبدو معادلة المفردات مشغولة بتعابير ومقدمات إنسانية عميقة، تمخر عباب الوحدة البصرية كقراءة أولية تستجيب للمؤثرين السمعي والبصري، يتناغمان ومقولة الشاعر (تي إس إليوت): الشعر يجعل البشر يرون العالم أو جزءاً منه زاهياً.. ويجعلنا ندرك بين الفينة والأخرى تلك الأحاسيس العميقة التي يصعب تسميتها..).
و إن كانت انتصار سليمان قد ارتدت الكلمة، فقد تقطّر من ردائها الضوء.. وتغنّت للحب وشرحت أحرفه بمعجمين، كيف لا، والشعر يحضرها بقوة في مخاطبة الكينونة.. وتفتح نوافد الأفق، ليتقمّص جسدها السماء.. فيكفيها من قال ( سبحان من سوَّاها على قد ضياء الحرف.. وسلمها سرّ فتنتها..)
وتضيف في تعويلاتها أيضاً:
“عوّلت على الشعر
فأيقظ الغافي والمسكوت عنه
ورماني بدلالات شتى ..”
أمثلة تبوح فيها الأنا عن مكنوناتها المتوالدة كزيزفون مسيّج بالمغنى والحنين..
لأنّني قصبُ الرَيحِ أرتجفُ…سأعزفُ لحنَكَ…
لأنّني الموجُ الذي سافرَ بخُفَّيِ الزّبدِ.. سأشكِّلُكَ مَرْكباً للحنينِ….
لأنّني أحبُكَ كما لا يحبَ أحدٌ.. سأتمدّدُ بتكوينِكَ
ألوَنُ زخارفَ الوقتِ… وأصمُتُ
ولأنَّ الحياةَ ابنةُ جاريةٍ.. تركتُ حرائرَهَا
فوَضّتُ أمري للظمَإ
لأنّني طفلةُ قَبّلتْكَ.. صوَمتُ شفتي صِيامَ البتولِ…!
ولأنّني عذراءُ فَتنتْكَ
وعرَتني الدّهشةُ من عرائي
تركتُ لك خاتمةَ الألمِ!
إذن، الأفعال الشعرية المتواصلة في أغلبي نصوصها جعلها تعزف لنا مقامات وتنويعات موسيقية تعيدنا إلى رُقم محفورة بأصابع دهشة، ثائرة، منحازة لبوح المكان والزمان بسيل من الحالات التأملية، السردية، المختزلة، المخصبة، والذاتية المسربلة بارتجافة الجسد وشهواته.
وهي المجبرة أن تغفو في حضن مواجعها بكل مذاق الحروف، (مالح كخريف البشر أو حلوة كصومعة عشقها..)
(أصير الصبح حتماً
لو أيقظتني..)
إذن، ماذا تخبئ لكم انتصار سليمان أيضاً، وهي التي انتعلت القهقهة، وأودعتنا محارة الأيام، حتى غرق الأقحوان ، ولم يبق له أثر في مساره العقيم..؟
أشتاقُكَ سماءً تظلَلُ نجمتي.. ترفعُني لتخومِ قلبكَ
تهرولُ خلفَ موجتي الحبلى بعطرِكَ
تمارسُ لثغةَ الوضوحِ
تنزلقُ إلى أوديتي معبَّأً بالحنينِ
أشتاقُكَ لا كما تشتاقُ النّساءُ
ثم يعود الشوق ليلملم أحدوثة مواويلها
“أشتاقُكَ سُبْحةً لاعتناقِ المددِ
فروضاً للتّلاوةِ
صلاةً لطقسِ الماءِ والطّينِ
صِياماً لشفتيْنِ أزهرَتَا بالصَمتِ”
وتبشّرنا الشاعرة بدروب إليكم وجمر علينا، وتختصر رحلة البشر، كناي لأوجاع القصب.. فلو جاءتكم قبل الكلام، لفاتكم انتظارها.. فمبارك لكم جراح الملح.. في أغنية لعشقِ التّوهَجِ وانحناءة ليُتْمِ أضلعها، وارتواء لنسغِ جموحها محاولة رسم نوتة يمارس فيها اللحن سطوته.
فالشاعرة المتبرجة بالآس، لا بد لكبريتها من أن يكون مغلوباً على أمره..
إذن، نشوة واعتراف لسيدة البياض، وحضور فاتن واضح كدمعة عشق وقلق كقصيدة لم تكتمل، متأصلة ومتوالدة في مقامات وصفية تختزل رقص الجسد والروح معاً.