اتّحاد الكتّاب يقطع عزلة الصّياصنة.. ويكرّم غيبور بغيابها
نجوى صليبه
لم يعدّ نفسه لحوار بعد سنوات من عزلة اختارها بنفسه، ربّما كانت ردّة فعل على واقع مؤسّساتي ثقافي مرير، وتحديداً شعري، وربّما كانت استراحة محارب لم تعرف روحه السّكينة. يقول الشّاعر يوسف الصّياصنة: أعترف أنني ابن مدرسة عميقة أكثر عمقاً من كلّ المدارس التي عرفتموها، وأكثر تأثيراً من كلّ هذه الجامعات عندما استقلّ وطني سورية الذي أنتمي إليه، وشاركت في احتفالات الجلاء عندما كنت في الصّف العاشر، وأذكر تفاصيل ما جرى تماماً، لم يكن في حوران مدارس متقدمة وكان فيها إعدادية وحيدة وثانوية وحيدة، أمّا المدارس الابتدائية فكانت مختزلةً وقليلة ولا يوجد مراكز ثقافية أو اتّحاد كتّاب كما اليوم يلتقي فيه الأدباء ويتبادلون الآراء والخبرات، وكانت المدرسة هي الأهل والجيران.
ومن هذه المدرسة أحبّ الصّياصنة القصّ وتعلّمه، يقول: أحببت القصّ من اجتماع الجيران والأصدقاء في منزل جدّي، إذ كانوا يقصّون قصّاً لا ينتهي.. تشدّك صور وتفاصيل قصصهم وحكاياتهم عن رحلاتهم، وكان مجال خطواتهم من درعا إلى ترعة السّويس وبيروت وبغداد، وكانت رحلاتهم على الجمال ينقلون ما تحتاجه هذه الأقطار من خيرات حوران ويجلبون منها ما تحتاجه، كانوا يقصّون ويصححون لبعضهم البعض ويتحرّون الدّقة في رواياتهم، وكنت أجلس وأسمع مشدوهاً، حتّى يحين المساء ويحضر الشّعراء الشّعبيون وشعراء السّيرة.
وخلال النّدوة التي أقامتها جمعيتا الشّعر والنّقد في اتّحاد الكتّاب العرب تكريماً له وللشّاعرة فاديا غيبور، بيّن الصّياصنة: انتميت إلى عالم الشّعر في عام 1995، ومارست الكتابة من خلال اتّحاد الكتّاب العرب عندما دعوني إلى ندوة، لقد كنت أكتب الشّعر لنفسي، وفي الخمسينيات بدأت بنشر بعض النّصوص في الصّحف، وفي عام 2000 طبعت أوّل ديوان وآخر ديوان طبعناه كتبته عام 1998 وقدّمت ديواناً في ذكرى استشهاد محمد الدّرة، لكنّه رُفض، ولأنّ من حقّي معرفة الأسباب اطّلعت على النّقد المقدّم وكان من ضمنه تساؤل: لماذا يضع إشارة استفهام وراء إشارة التّعجّب؟ ومن ثمّ لم أقدّم أيّ ديوان وآخر ديوان طبعته على نفقتي الشّخصية ولديّ عشرين ديواناً غير مطبوع في المنزل.
ونوّه الصّياصنة بأنّ هذه الالتفاتة تعني له الكثير، يوضّح: أقول شكراً بمعناها البعيد عن المجاملة.. شكراً على هذه الالتفاتة التي قد لا تعني للبعض شيئاً في آخر عمرهم، لكنّها في الحقيقة تعني لي ولأمثالي الكثير.. نطمح أن يستمر المشوار مع الآخرين وتستمر مسيرة الإبداع ويستمر هذا التّعاون بين النقد والشّعر فكلاهما بحاجة للآخر، فهناك مبدعون لم يجدوا فرصاً للإضاءة على نصوصهم، لقد صدر ديواني في عام 2000 وما سمعت نقداً متخصّصاً عنه، نعم هناك نقد مجاملات ونقد تبادل خبرة، لكن عندما يكون النّقد مقدّماً من متخصّص يثري الشّعر والنّقد ويثلج قلب الجميع ويساهم في تعديل هذا الطّريق ربّما.
وفي دراستها المفصّلة حول ديوان “برج الكلام” للشّاعر الصّياصنة، بيّنت الدّكتورة رجاء شاهين: الدّيوان صادر عن اتّحاد الكتّاب العرب في عام 2000، وعنوانه كشف عن مضمون، وإطلاق وتوضيح لمعنى أنشأته الصّورة للتّواصل مع فنّ الكتابة وتطوّرها، والبرج من أبراج الشّاعر الخاصّة يدفع بمعانٍ مخبأة وبتعبيرات تحتضن الزّمان الخلّاق والمرتبطة بما يمثّل الحركة باتّجاه المستقبل وهو تفاعل يتّسم بالإبداعية والخصوصية لتوالي الارتقاء الشّعري بلغته الفريدة، إذ يربط التّركيب الحداثوي بنوع من الأصالة. وفي فاتحة الدّيوان ونصوصه إبداع لا يشيب ورغبة بمزيد من الإضاءة للكشف عن الإنسان والعالم، مضيفةً: هناك رموز ودلائل وقرينة واضحة واستعادة أساطير ومزجها لتشكيل فضاء خاصّ لنصّه الشّعري ورسم معالم رحلة شعرية في أثناء التقاط اللحظة النّاشئة واستخدام اللغة بطريقة جديدة يتيح تجسيداً حيّاً وفنياً لكي يكون المتلقي بهذا الانفتاح على مقربة منه بما تحمله ذاكرته للتّواصل من الشّعرية بطاقة جديدة، ففي جميع النّصوص هناك ظاهرة الصّورة الشّعرية التي استجمع لوجودها استحداثية ذاتية تعطي اللحظة الإبداعية حضورها الحيّ، ساعياً بذلك إلى خلق تآلف مع طبيعة حضارية تتسم بخصائص مشرقية استوطنها بالوعي المعرفي.
وتتابع شاهين: نرى تجسيداً للحظة بعلاقتها بين الفعل الواقع وما ينطوي عليه من حزن وألم وبين التّمني، ونرى كياناً خاصّاً للذّات اتّجهت في معرفتها إلى تجسيد الفكر الإنساني بواسطة أدوات تعبيرية لتغدو الأكثر قدرةً على الحركة والنّهوض، منوّهةً بشعره الملتزم بالقضايا المحلية والعربية والإنسانية الذي يجعل القارئ بعداً من أبعاد النّص، مضيفةً: لقد كان الشّاعر حزيناً وعزل نفسه بطريقته الخاصّة ليرث الفطنة المتأتية من الألفاظ المختارة والتّناغم بين أجزاء الجمل، وحاول تأسيس توجّه خاصّ لإبداع نسيج شعري متميّز بلغته المائلة إلى العفوية والبسيطة، متمكّناً من الدّلالات والإشارات.
فاديا غيبور شاعرة مكرّمة أيضاً لكنّ وضعها الصّحي حال دون حضورها، فحضر نيابةً عنها زوجها الأستاذ أنور معمار، مستمعاً كما الجميع للقراءة النّقدية التي قدّمها الدّكتور غسّان غنيم حول مجموعتها “نصف غناء وحلوى”، يقول: هناك غنائية طاغية جدّاً في هذه المجموعة، ومنذ البداية نلاحظ العنوان الذي يُقسم إلى قسمين جميلين هما الغناء والحلوى، وكأنّها تشير إلى أنّ المتلقي يستمع إلى ما هو شهي وجميل، والموضوع الأكثر شمولاً هنا هو الوطن بكلّ ما فيه من جمال وآلام وعذابات وفراق، وقد تناولت جزئيات ومضمونات وصوراً كثيرة في هذا الموضوع، ومنها تمازج الهمّ الخاصّ بالعام متجاوزةً حدود الوطن إلى الوطن العربي ككل، كما في قصيدة: “يا أنت يا هذا الجنوب”.
ويشيد غنيم بخصوصية غيبور وجرأتها على خلاف شاعرات كثيرات، يقول: “فاديا غيبور على غير الشّاعرات الأخريات تبوح بعاطفتها وتصرّح بلغة فريدة ومميزة مستعينة بالتّشبيه”، مثلاً تقول: “يا أنت الشّاحب.. أنت اليابس مثل وريدي.. هل جاءتك رسائل جرحي وقلبي الطّاعن نحو فراتك آن يغيض”، الملفت في المجموعة أن الوجدانيات تصدر عن حبّ مقهور، وقلّما يتوافق الحبّ مع الفرح لكن بعزة نفس الأنثى، والملفت أيضاً هو القافية المقيدة الجميلة التي تطرب القارئ والتي لا أعرف كيف تستخدمها.