الحروب بعيداً عن أراضيها.. وصفة الولايات المتحدة للخروج من أزمتها
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
لم تكتف الأزمة الاقتصادية العالمية التي اجتاحت البلدان بسبب سياسات واشنطن بنشر الفوضى في العالم، بل دمرت أيضاً نموذج العالم متعدد الأقطاب، وغيرت وضع العديد من الدول، وأدت إلى زيادة التناقضات بين الدول والتحالفات، وقد أصبح من الصعب حل المشاكل التي برزت من خلال الاعتماد على مبادئ النظام العالمي منذ منتصف القرن الماضي وتجاهل الحقائق الحالية. ولذلك فإن الحاجة الملحة لوضع قواعد جديدة يمكن من خلالها حل الأزمة العالمية الحالية قد أصبحت على جدول الأعمال. ومع مرور الوقت سيظهر المسار الذي ستتخذه هذه العملية سوء أكان سلمياً أم عسكرياً،على الرغم من خطورة الخيار العسكري.
كانت العقود الماضية مصحوبة باضطرابات عالمية، منها انهيار حلف وارسو والنظام الاشتراكي العالمي بأكمله، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وشغل الصين للمرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي. في ظل هذه الخلفية، قررت الولايات المتحدة اعتقاداً منها بتفوقها، التصرف وفقاً لقواعدها الخاصة، وتجاهل القواعد المعترف بها في القانون الدولي، والتغلب على الأزمة من خلال شن الحروب، التي أصبحت منذ فترة طويلة تقنية أمريكية تقليدية. وهذا بالضبط ما حدث في الحرب العالمية الأولى ثم في الحرب العالمية الثانية، حيث خسرت أمريكا حوالي 400 ألف من مواطنيها، وهو رقم كبير وفق المعايير الأمريكية، ولكن في نفس الوقت، على عكس المشاركين الآخرين، خرجت من تلك الحرب مع الربح.
وبالتالي، فإن طريقة الخروج من الأزمة من خلال الحرب تظل تقنية مستخدمة بنشاط بالنسبة للولايات المتحدة، ولكن طبيعة الحروب هي التي تتغير فقط. علاوة على ذلك، فإن الحروب أو النزاعات المسلحة التي تبدأها واشنطن عادة ما تكون على مسافة بعيدة من أراضيها، وبالتالي فإن الخسائر التي تتكبدها الولايات المتحدة نفسها ضئيلة. كما أنه لا يُنظر إلى الحرب على أنها أمر مروع من قبل الأمريكيين العاديين، لأن الموقع الجغرافي للولايات المتحدة يعطي إحساساً زائفاً بالإفلات من العقاب والحماية من الخسائر الفادحة.
قامت الجمعية الصينية لدراسات حقوق الإنسان في مقال تحليلي خاص حمل عنوان “الكوارث الإنسانية الشديدة التي سببتها الحروب العدوانية الأمريكية ضد الدول الأجنبية”، بإحصاء عدد الحروب والكوارث الإنسانية التي تسببت فيها السياسة الخارجية العدوانية للولايات المتحدة باسم الهيمنة على العالم. و يُظهر التقرير أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عام 2001، نظمت الولايات المتحدة 201 صراعاً مسلحاً من أصل 248 نزاعاً مسلحاً في 153 منطقة من العالم، ولا يشمل ذلك الحروب التي تشنها واشنطن في الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، تدخلت الولايات المتحدة في شؤون الدول الأخرى، ودعمت الحروب بالوكالة، وحرضت على الحروب الأهلية والصراعات التي تفيد الولايات المتحدة، وأثارت حركات التمرد المناهضة للحكومات، وارتكبت الاغتيالات، وقامت بإمداد مرتزقتها بالأسلحة والذخائر، وتدريب القوات المناهضة للحكومات. و نتيجة لكل تلك الأفعال، ألحقت الولايات المتحدة أضراراً جسيمة بالاستقرار الاجتماعي والسلامة العامة للعديد من البلدان، وكذلك الخسائر الجماعية، وتوقف الإنتاج، وموجات من اللجوء، والاضطرابات الاجتماعية.
في اتباع مثل هذه السياسة، استخدمت واشنطن وصفة معروفة للخروج من أزمتها الخاصة وهي الحرب، والغرض منها هو تدمير السلع المصنعة والموارد المادية وإعادة توزيع الممتلكات. وفي مواجهة المخاطر الجسيمة للحرب، فرضت واشنطن بديلاً على العالم قبل بضع سنوات، وهو وباء كوفيد -19 العالمي، والذي كانت أهدافه مثل الحرب، القضاء على فائض الاقتصاد، وإعادة توزيع الممتلكات وإلغاء الديون. وبتوقعها تقليل نصيب الولايات المتحدة من التخفيض في الاقتصاد العالمي على حساب الأطراف التي يجب أن تدفع ثمن كل شيء، بدأت واشنطن في نشر المئات من المختبرات الحيوية السرية المنتشرة في جميع أنحاء العالم ، متوقعة أنه من خلال قيامها بذلك فإن الصين وروسيا هما اللتان ستتكبدان أسوأ خسائر وستدفعان الكثير بشكل عام.
اليوم، مع تزايد أعداد الإصابات جراء جائحة جدري القرود الجديد، وفي ظل هذه الظروف لن يكون من المستغرب اتهام الولايات المتحدة بالتسبب في هذا الوباء أو التغير والتحول في هذا الفيروس. وبالقياس مع التصريحات الأخيرة لـ جيفري ساكس ، العالم الأمريكي الذي ترأس لجنة التحقيق في أصل الفيروس التاجي، لمجلة الطبية الرسمية “ذا لانسيت”، الذي أشار إلى أن متحور “فيروس كورونا –سارس 2” الفيروس المسبب لكوفيد- 19كان نتيجة لأنشطة مختبرات التكنولوجيا الحيوية الأمريكية.
لقد بات من الواضح للجميع أن الأزمة الإنسانية التي سببتها الأعمال العدوانية لواشنطن ترجع إلى عقلية الهيمنة للولايات المتحدة. ولذلك، من السخف التوقع من دولة مهيمنة أن تحمي حقوق الإنسان في دول أخرى، أو أن تهتم بحياة الناس على هذا الكوكب. إن حقيقة أن “الحرب المنتصرة” أو التحضير القوي لها ستكون الوسيلة المثلى لقيادة الاقتصاد الأمريكي للخروج من أزمته المتزايدة والتي تم الإعلان عنها مؤخراً في “معهد بروكينغز”، المركز المحافظ الأمريكي الرائد في مجال دراسة السياسة والاقتصاد، من خلال رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق بن برنانكي، والذي أشار بلغة واضحة إلى أن الحرب وحدها هي التي ستنقذ الاقتصاد الأمريكي وتسمح له بتجاوز العواقب السلبية للأزمة الحالية. والمثال الأكثر وضوحاً في هذا الإطار، في رأيه، هو الحرب العالمية الثانية، عندما أخرجت العقود العسكرية الضخمة حرفياً الاقتصاد الأمريكي من الكساد وكان لها تأثير هائل على زيادة الإنتاج التي شعرت بها بعد انتهاء الحرب.
بتطبيق هذه التكتيكات والأهداف، كثفت الولايات المتحدة أنشطتها لإثارة المواجهات المسلحة في كل منطقة من مناطق العالم تقريباً في الأشهر الأخيرة، وكان هذا هو الهدف، على وجه الخصوص، من استفزاز واشنطن لموسكو من أجل تشويه سمعتها بسبب العملة الخاصة التي قامت بها في أوكرانيا، وإطلاق العنان للصراع مع الصين والأحداث حول تايوان، ودفع الكيان الإسرائيلي للقيام بعمل عسكري ضد سورية وإيران والفلسطينيين.
كما ظهر في الأيام الأخيرة أن الوضع في باكستان، وهي واحدة من أكثر الدول اكتظاظاً بالسكان في جنوب آسيا، والتي تمتلك أيضاً أسلحة نووية، على وشك الانفجار، وذلك بسبب الاضطرابات الجديدة في هذا البلد نتيجة المواجهة بين رئيس الوزراء الحالي شهباز شريف، وسلفه عمران خان المعروف بتصريحاته المعادية لأمريكا. لذلك، اليوم، على خلفية وضع اقتصادي غير مثالي، سيتعين على باكستان أن تمر بأزمة سياسية، وسواء انتهت هذه الأزمة بانتصار أحد الطرفين أو تطورت إلى شيء أكثر خطورة، فسنرى في المستقبل القريب، وكذلك الدور غير المشروط للولايات المتحدة في الفرض التالي لنزاع عسكري جديد على العالم.