“تراس”.. أنا من دعاة الحرب!
البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة
تولت رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة ليز تراس منصبها في أسبوع بالغ الأهمية للسياسة البريطانية، فبعد يومين فقط من تعيينها رسمياً من قبل الملكة إليزابيث الثانية توفيت الملكة الضعيفة عن عمر يناهز 96 عاماً.
يضيف الحداد على المستوى الوطني للملكة المتوفية، التي كان يُنظر إليها عموماً على أنها شخصية أمومية عبقرية، إحساساً بالخطر على صعود تراس إلى السلطة، ففي ما يسمى بـ “الملكية الدستورية” في بريطانيا، يكون التاج هو مقر سلطة الدولة، بينما يشغل رئيس الوزراء منصاً، وهذا له تداعيات عميقة – إن لم يكن معلناً – على الديمقراطية المزعومة في بريطانيا.
تسلمت تراس منصب زعيم حزب المحافظين، ورئيس الوزراء من بوريس جونسون، الذي أُجبر في النهاية على الاستقالة بسبب فضائح الفساد التي لا نهاية لها. وبذلك، أصبحت تراس ثالث سيدة من حزب المحافظين تتولى رئاسة وزراء بريطانيا، وهي رابع رئيس وزراء لحزب المحافظين يتولى المنصب خلال السنوات الأربع الماضية بعد كاميرون وماي وجونسون، الأمر الذي يؤكد أن المؤسسة البريطانية تفضل تاريخياً حزب المحافظين اليميني المؤيد للرأسمالية وللعسكرة باعتباره الحزب الحاكم. وعلى الرغم من أن جميع الأحزاب البرلمانية الرئيسية في بريطانيا- حزب المحافظين، والعمل، والديمقراطيين الليبراليين – خدم مخلصون للمؤسسة، لكن المحافظين هم أصحاب المناصب الأكثر موثوقية، ويتمتعون بنفس مصالح الطبقة الثرية، ولديهم نفس النظرة الإمبريالية للعالم.
ميل للوقوف أعلى الدبابات
على الرغم من أن ليز تراس ليست شخصاً يوحي بثقة الجمهور أو طمأنته بقيادتها، لكنها شخصية عسكرية وقوية في العلاقات الخارجية، الأمر الذي يجعلها مناسبة لمصالح المؤسسة البريطانية.
كانت تراس التي ولدت عام 1975، متحمسة ومعجبة بزعيمة حزب المحافظين المتشددة مارغريت تاتشر، ومثل تاتشر، لديها ولع لالتقاط صور لها وهي تجلس على دبابات عسكرية متمسكة بأوهام “بريطانيا العظمى”، مثل العديد من السياسيين المحافظين الآخرين.
قبل بضعة أسابيع فقط خلال معركة زعامة حزب المحافظين، قالت تراس إنها لن تتورع على الإطلاق في استخدام الأسلحة النووية “حتى لو كان ذلك يعني إبادة عالمية”، وقد أشارت تقارير وسائل الإعلام البريطانية، بشكل عرضي إلى حد ما، إلى أنه تم تكليفها بالقواعد النووية السرية لبريطانيا أول شيء بعد أن أصبحت رئيسة للوزراء.
كان أول إجراء لها عند توليها منصب في “داونينغ ستريت” هو الاتصال بالرئيس الأمريكي جو بايدن لتجديد دعم بريطانيا الكامل للحرب التي يدعمها الناتو في أوكرانيا ضد روسيا، ويبدو أن ما يُسمى بـ”العلاقة الخاصة” لبريطانيا والتي تخدم العم سام ستكون أكثر طاعة وخضوعاً في ظل حكم تراس.
وتفيد التقارير بأن مكالمتها الهاتفية الخارجية الثانية كانت مع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي الذي أبلغته أيضاً أن بريطانيا ستكثف دعمها العسكري لنظامه النازي في كييف.
في الحقيقة يُظهر ترتيب الأولوية في المكالمتين الهاتفيتين بوضوح، أنها من دعاة الحرب المتهورين، إذ كان رؤساء الوزراء البريطانيون الجدد عادة يجرون مكالمات هاتفية لحلفاء أوروبيين بارزين آخرين، لكن اختيار تراس لإعطاء الأولوية لنظام كييف على ألمانيا أو فرنسا في أعقاب نداءها إلى بايدن هو علامة تنذر بطريقة تفكيرها والأجندة التي تتبعها.
دعوات غير متوازنة لهزيمة روسيا
أدلت تراس بالفعل بتصريحات بغيضة ومختلة عندما كانت وزيرة الخارجية في حكومة بوريس جونسون، فقد دعت مراراً وتكراراً إلى هزيمة روسيا بشكل حاسم في الصراع مع أوكرانيا. كما تُظهر إهاناتها الشخصية المهينة في إشارة إلى الرئيس الروسي بوتين، أنها شخص مصاب برهاب روسيا.
كما أدلت بتعليقات متشددة بلا مبرر حول مواجهة الصين و “إنهاء نفوذها” على الرغم من أن ذلك سيعني تدمير العلاقات الاقتصادية مع القوة التي ستصبح قريباً القوة العالمية الأولى، ويبدو أن لندن ستنغمس بشكل كبير في استفزازات واشنطن غير المنطقية تجاه بكين.
فضلاً عن ذلك، تعهدت زعيمة حزب المحافظين الجديدة بزيادة الإنفاق العسكري البريطاني الهائل من 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 3 في المائة بحلول عام 2030، ما يعني إنفاقاً إضافياً يقدر بنحو 150 مليار دولار على الجيش من قبل بريطانيا في أقل من ثماني سنوات.
ويرى مراقبون، أن هذا الأمر سيؤدي حتماً إلى تخفيضات جذرية في الإنفاق العام على الصحة والتعليم والخدمات الأساسية الأخرى، بينما ستجر تراس بريطانيا إلى طريق الحرب. شأنها في ذلك شأن سائر الأنظمة الغربية الأخرى، بيد أنه أكثر شدة في بريطانيا، إذ لا تواجه تراس مشاكل في ضخ مليارات الدولارات على الأسلحة وصناعة الحروب وإحداث تضخم شديد وبؤس اقتصادي للعمال وعائلاتهم طالما أن المجمع الصناعي العسكري يجني أرباحاً.
إثارة العداء مع روسيا والصين
من الواضح تماماً، أن أولويات تراس تتمثل في النزعة العسكرية المجنونة واستعداء روسيا والصين في كل فرصة، فقد ضحت تراس بالمصالح الاجتماعية والاقتصادية لمعظم البريطانيين في سعيها الإجرامي لسياسة عدائية تجاه موسكو وبكين.
فضلاً عن أنها إمرأة زئبقية، تفتقد للمباديء، ففي السابق، كانت عضواً في حزب الديمقراطيين الأحرار، وخلال تلك الفترة، دعت تراس إلى إلغاء الملكية. ثم عندما كانت مسيرتها السياسية أكثر حظاً من خلال الانضمام إلى حزب المحافظين، غيرت مبادئها وأصبحت متحمسة للملكية.
كما كانت صريحة في السابق في معارضتها لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، فقط لتتراجع وتصبح مؤيدة متشددة لبريكست في حكومة جونسون، وهو تحول أدى إلى حصولها بسرعة على مناصب وزارية عالية. وفيما يتعلق بالعلاقات مع الاتحاد الأوروبي، حذرت تراس من أن حكومتها ستتجاوز التزامات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الملزمة قانوناً. وهذا يعني أن العلاقات مع بقية أوروبا يمكن أن تستمر لفترة أكثر صعوبة. كما ستتعرض التسوية السلمية الهشة في أيرلندا لخطر الانهيار مع عودة العنف المدني هناك بسبب تجاهل تراس للوفاء بالتزامات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الحفاظ على حدود مفتوحة في جزيرة أيرلندا.
بحسب محللون، تفتقر تراس إلى المعرفة التاريخية وتقدير العلاقات الدولية بشكل كبير، فقد أدلت، على سبيل المثال، بتعليقات سخيفة وغير منطقية حول تاريخ أوكرانيا، الذي ادعت أنه تاريخ طويل من التحدي والاستقلال يعود إلى “غزوات المغول والتتار”. بينما واقع الحال، هو أن أوكرانيا دولة حديثة برزت إلى الوجود كإحدى الجمهوريات في الاتحاد السوفييتي السابق الذي تم تشكيله في عام 1917، وحصلت لاحقاً على استقلالها في عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، لكن يبدو أن تراس تعتقد أن أوكرانيا كانت موجودة مع جنكيز خان في القرن الرابع عشر.
جهل مروع
لم تظهر تراس التي التقت عندما كانت تتولى منصب وزيرة الخارجية، بكبير الدبلوماسيين الروسي سيرغي لافروف في موسكو خلال الاستعداد للعملية العسكرية في أوكرانيا، أي وعي بمخاوف موسكو الأمنية المشروعة التي طال أمدها بشأن توسع الناتو والتهديد غير المقبول الذي يشكله هذا التوسع على الأمن القومي الروسي، كما كشفت أيضاً خلال حواراتها مع لافروف عن جهل مروع بجغرافية روسيا وحدودها مع أوكرانيا، فبعد اجتماعهم المغلق الفاتر، خاطب لافروف وسائل الإعلام بشكل منفصل، ووصف مناقشاته السابقة المتوترة مع تراس بأنها أقرب إلى حوار بين شخصين أحداهما أصم والآخر أبكم.
لحظات محفوفة بالمخاطر
وصلت العلاقات الدولية إلى لحظة توترات محفوفة بالمخاطر بين الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، حيث يخشى العديد من الناس في جميع أنحاء العالم اندلاع حرب عالمية بسبب الصراع في أوكرانيا أو التوترات حول تايوان، أي حرب شاملة تتصاعد إلى حريق نووي للكوكب، وهو أمر يبدو أن ليز تراس لا تكترث به.
ما يحتاجه العالم في هذا المنعطف المحفوف بالمخاطر هو دبلوماسيون وصناع سلام يمكنهم حل النزاعات من خلال استيعاب المخاوف الحقيقية، بينما تراس المشجعة للتسلح، بعيدة كل البعد عن أي من تلك الصفات. ويرى مراقبون أن توليها لمنصبها جاء في وقت عصيب، وستلحق المزيد من عدم الاستقرار وانعدام الأمن لكل من العلاقات الدولية والشعب البريطاني.
زعيم بلا تفويض ديمقراطي
ستصبح تراس رئيسة وزراء بريطانيا القادمة دون أي تفويض ديمقراطي، فقد تم التصويت لها من قبل أعضاء حزب المحافظين لخلافة جونسون، الذي فاز في الانتخابات الوطنية لعام 2020 كزعيم حزب المحافظين آنذاك. وهكذا تأتي انتخاب تراس نتيجة الاقتراع الداخلي لحزب المحافظين 80.000 عضواً، حيث يمثل هذا العدد جزءاً صغيراً، أي أقل بكثير من 1 في المائة من إجمالي جمهور الناخبين البريطانيين.
لذلك، وفي ظل هذه الظروف، يرى المراقبون ضرورة إجراء انتخابات وطنية جديدة كمبدأ ديمقراطي، لكن الأمر ليس كذلك في بريطانيا حيث تحكم المؤسسة غير المنتخبة وأتباعها، والانتخابات في الواقع مجرد عرض جانبي، وهذا هو المعنى الحقيقي لـ “القيم البريطانية”.
على نحو متزايد، لدى معظم البريطانيين مخاوف ملحة بشأن تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية، أو كيفية الحفاظ على وظائفهم وإطعام أسرهم ودفع تكاليف تدفئة منازلهم. ومع ذلك، تريد تراس إشعال الحرب مع روسيا، وإنفاق المزيد على الجيش أكثر مما ينفق على الخدمات العامة، وكل ذلك بدافع الشوفينية والجهل والغرور الوظيفي.
إنها تكبد الناس العاديين تكاليف الحرب وتجعلهم يدفعون ثمن مكائدها الإجرامية تجاه روسيا والصين، حيث ستتأثر الأسر في جميع أنحاء بريطانيا هذا الشتاء بسبب فواتير الطاقة الهائلة، بينما تراس وأمثالها مثل أورسولا فون دير لاين، أعلى بيروقراطي في المفوضية الأوروبية، يتسببون في بؤس غير مسبوق للناس ، إذا لم يحرضوا بالفعل على حرب عالمية شاملة.
في استعراض لمجريات السياسة البريطانية، هل يمكن لأي شخص أن يواظب فعلاً على الإشارة إليها على أنها ديمقراطية؟. إن الأمر لم يكن كذلك أبداً، كما يتضح من دور الملكية، وهذا ما يمكن قوله عن الدول الغربية الأخرى وأنظمتها الديمقراطية الزائفة.
من هنا، تعتبر ليز تراس خياراً مناسباً، ليس بالطبع من أجل السلام العالمي، ولكن كتجسيد لغطرسة المؤسسة البريطانية الغادرة والإمبريالية والفاشية المستوطنة.