“منصات اجتماعية” لا تميّز بين الواقعين الافتراضي والحقيقي.. والنتيجة تعويم للخوف وتغرير بالرأي العام!
وسعت وسائل التواصل الاجتماعي اجتهاداتها السلبية لاستجرار الإعجابات والتعليقات من دون التفات لنوع أو تأثير المحتوى المعروض، وصولا لظهور صفحات على تلك الوسائل تعرف عن نفسها بوصفها “منصات اجتماعية”، تنشر محتوى مضلل يتسم بالمبالغة عن الوقائع الاجتماعية من دون عرض حلول واقعية للمشكلة، أومحاكاتها بالشكل الأمثل.
تجارب اجتماعية
وتعرض تلك “المنصات” ما تسميه تجارب اجتماعية تمثيلية تستهدف استفزاز الجمهور في الشارع وابتزازه عاطفياً من خلال تعمّد المبالغة في طرح أمور غير مقبولة اجتماعياً، وغالبا ما تكون بعيدة عن الأعراف القانونية والاجتماعية، والطامة الكبرى أن القائمين على المنصة يثنون على المحتوى بوصفه الطريقة الأمثل للحل، على الرغم من أن تطبيقها على أرض الواقع قد يورط الطرفين في مشكلات أكبر، على سبيل المثال طرحت إحدى المنصات لمشكلة الإيجار في ظل الواقع الاقتصادي السيء للعديد من الأسر عبر مشهد تمثيلي ظهر من خلاله محاولة صاحب العقار طرد امرأة تأخرت عن سداد الأجر الشهري، هذا المشهد تعمّد استفزاز المارة، وذلك من خلال الصراخ والإساءة، ورفع مستوى الإهانة والتشويه كلما تأخر المشهد عن اجتذاب تدخل معين من المارة. وغالباً ما تنجح تلك الأساليب في حصد ردات فعل عدائية من الناس وحلول غير مجدية تؤدي إلى تورط أكبر للطرفين في حال كانت الواقعة حقيقية، والتي يتم حل غالبيتها من خلال العنف، والغريب في الأمر هو تبني القائمين على المنصة لتلك التصرفات، ودعم أصحابها بكلمات على غرار (الله يكتر من أمثالك) من دون التعليق على سلبياتها أو عرض أي رأي آخر منصف للحالة وحلولها، ووفقا لأخصائيين، فإن المواد “الاجتماعية” التي تقدمها تلك المنصات بطريقة غير مدروسة، ودون اتباع الأساليب العلمية المرعية في الحالات الاجتماعية، خطيرة جداً، كونها تساهم في نشر السلبية وتعويم ظاهرة الخوف والتوجس الاجتماعي، والترويج لحالات اجتماعية قد لا يكون لها سند حقيقي في الواقع. والخطير أن نسبة واسعة من الجمهور تتلقى ما تعرضه عن المجتمع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي من دون إدراك وقدرة حقيقية على التمييز.
رأي عام مؤيد
الإعلامية رائدة وقاف، نائب رئيس اتحاد الصحفيين، لفتت إلى أن الإعلام الاجتماعي يتوسع وينتشر بتسارع واضح مع ما يحمله من إيجابيات وأضرار في الوقت نفسه، مشيرة إلى أن عرض الوقائع الاجتماعية لابد أن يهدف لتحقيق نوع من التكافل الاجتماعي والمقاربة الإيجابية لظاهرة اجتماعية لتسهيل التعاطي معها وتكوين رأي عام مؤيد ومساهم في حلها، غير أن ممارسات بعض الوسائل تخرج من إطار المساهمة المجتمعية لعرض الإثارة ومحاولة تجميع الإعجابات والتعليقات من خلال المبالغة في العرض وتعمد التشويه باستغلال التعاطف.
وأوضحت وقاف أن عرض المحتوى الاجتماعي يحتاج لرؤية تكاملية غالباً ما تكون مفقودة في تلك المنصات، معتبرة أنه بالإضافة للجوانب القانونية المرعية لابد من توافر روح المسؤولية خصوصاً في حال كان صاحب المحتوى إعلامي أو من المؤثرين على وسائل التواصل.
وفي الحالات الاجتماعية والأمور التي قد تؤثر على الشعور الجمعي وتكوين الرأي العام لابد من “الحذر” – وفقاً لوقاف – والابتعاد عن التغرير والمبالغة وأساليب التلاعب العاطفي التي تؤدي لانجراف فئة واسعة من المجتمع باتجاه المعلومات المضللة لضعف المحاكمة وعدم القدرة على الموازنة الحقيقية بين المعلومات المفبركة والحقيقية وتمييزها، وهو الأمر الذي تقع مسؤولية التصدي له على أصحاب الفكر من الإعلاميين والمثقفين لإنشاء محتوى متكامل وحقيقي قادر على الوصول للجمهور بسلاسة وبنفس الفاعلية للتغلب على الرسائل المشوشة.
واعتبرت وقاف أن الفضاء المفتوح سيخُرج عدداً غير محدود من الظواهر التي لا يمكن التحكم بها، الأمر الذي سيعزز خبرة المتلقين يوما بعد آخر ويوجههم لمصادر المعلومات الصحيحة بوجود العمل الجدي والمتابعة المستمرة من الوسائل الإعلامية والصفحات المسؤولة وعدم ترك الفضاء للمضللين وأصحاب الأفكار الهدامة وناشري الشائعات وغيرهم.
مشروع للتنظيم
وكشفت نائب رئيس اتحاد الصحفيين عن مشروع لتنظيم ما يعرف بالصحافة المجتمعية والصفحات المؤثرة والمدونين وغيرهم من خلال العمل على تسجيل تلك الصفحات ومنحها القبول والموافقة على العمل والتي ربما تصل لحد الاعتمادية في المستقبل وذلك كونها باتت واقعاً لابد من لحظه والاعتراف بتأثيره ومدى مشاركة المتابعين له ومتابعتهم للأخبار والمعلومات عبر تلك الوسائل.
وبينت أن تنظيم الصفحات الواعية صاحبة التأثير يمنحها مزيداً من المصداقية بالإضافة للحماية والغطاء القانوني لعملها، والذي هو أحد أهم أهداف الاتحاد الذي يسعى لتقديم كافة التسهيلات للعمل الإعلامي وحماية الإعلاميين قانونياً ومحاولة فض أي خلاف بين الإعلاميين والمصادر الرسمية وغير الرسمية من خلال الإضاءة على العمل الصحفي وأهميته، وحدوده والتزاماته أيضاً.
رسائل سلبية
المتخصص في الإعلام الإلكتروني في كلية الإعلام الدكتور أحمد شعراوي يرى أن الفضاء الإلكتروني الواسع يصدر العديد من الرسائل السلبية كما يوفر مجالاً واسعاً للتلاعب المقصود بالرأي العام ومحاولة تثبيت توجهات سلبية وغرس نوع من ضعف الثقة الاجتماعية وذلك بقصد الإضرار بالسلم الاجتماعي ومن خلال أدوات مدروسة بدقة تقوم على عناصر احترافية تتقصد الوصول للتأثير السلبي المطلوب مع الإيحاء بغير ذلك.
وبيّن شعراوي أن التعامل مع الوسائط الإلكترونية غير نزيه حيث تكون مصادر المعلومات أو الرسالة غير معلومة للمتلقي، ويتم عرضها بصورة مغايرة لأهدافها المبطنة من خلال تلميعها بصور الوطنية ومكافحة الفساد وغيرها من المفردات الرنانة التي تداعب مشاعر الجمهور، بهدف الحصول على تأييد مجتمعي يتم استثماره لبث معلومات غير حقيقية وبعيدة كلياً عن الواقع لإضعاف المجتمع وضرب الروح المعنوية والنفسية، يضاف لها ضعف فهم كثيرين بوسائل إدارة صفحات التواصل الاجتماعي ومصادرها. واعتبر شعراوي أن استهداف الواقع الاجتماعي يتم من خلال عرض مظاهر لا تمثل حالات حقيقية أو انتشار حقيقي، والمبالغة في التعامل معها من طرف أشخاص تابعين للمنصة، ورصد الاستجابة السلبية لبعض الأشخاص حتى في حال تدخلهم، ومحاولة تلميع هذه الاستجابة جميعها تصب في صالح إضعاف المجتمع وتضليله.
وبرأي الدكتور شعراوي أن نسبة كبيرة من أفراد المجتمع تستقي معلوماتها عن الواقع من صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وهو ما يعتبر من مخاطر التأثير الكبرى لتلك الوسائل الافتراضية التي باتت بديلاً عن الواقع للعديد من الأشخاص، ولذلك فإن تأثير المنصات الاجتماعية السلبية على هؤلاء يكون واسعاً لعدم قدرتهم على التمييز بين الواقع الافتراضي والحقيقي ما يزيد من سلبيتهم الاجتماعية وشعورهم بالخطر وانعدام الأمن الاجتماعي.
التحفيز الخاطئ!
ووصفت الأخصائية الاجتماعية هبة موسى ما تعرضه المنصات الاجتماعية “بالتحفيز الخاطئ”، الذي يدعم استجابة سلبية غير واقعية أو مجدية لصالح حالة اجتماعية ومحاكاتها بطريقة غير لائقة ما يدل على عدم وجود تدخل اجتماعي لمختصين في عمل تلك المنصات.
وفندت موسى أساليب عمل تلك المنصات بأنها بعيدة عم الأهداف الاجتماعية، مبينة أن عرض حالات غير واقعية والمبالغة في إذلال أفراد التجربة (الممثلين) والذين يمثلون شريحة اجتماعية معينة لصالح تحقيق رد فعل من الجمهور، ومن ثم عرض تلك المظاهر على المنصات الاجتماعية وتعويد المتلقين عليها يؤثر عكسياً أو سلباً على المشاعر الإنسانية، التي من المفترض في التجارب الاجتماعية تعزيزها والتوجيه الإيجابي إليها، وعدم نشر مواد تؤثر في إضعاف الشعور الإنساني أو (مسخه) لصالح الإثارة.
وبينت موسى أن تلك المنصات تنشر وتقدم محتوى اجتماعي لإحداث نوع من الضجيج وكسب اعجابات ومشاهدات واسعة، بعيداً عن الأهداف الاجتماعية الحقيقية ومحاولة طرح معالجة واقعية للحالة، معتبرة أن المعالجات الاجتماعية تشمل الجانب النفسي والاجتماعي والقيمي ورصد الاستجابات الإيجابية والإضاءة عليها.
الحلول الممكنة
وأوضحت الأخصائية الاجتماعية أن الحلول تشكل أهم الأبعاد الجوهرية لأية مقاربة ومحاكاة اجتماعية، وأن العمل على تعويم ما يسمى بالبطل من ورق وتحفيز التعاطي السلبي مع المجتمع، والثناء عليه من قبل القائمين على المنصات يؤدي لنتائج كارثية من خلال ترسيخ ردود الفعل العدوانية غير الملبية، وما قد تعكسه من نتائج قانونية على الحالة الاجتماعية محل الواقعة والمدافع عنها.
للأسف، تحظى تلك المنصات بمشاهدات واسعة لاستغلالها التعاطف الاجتماعي والضائقة الاقتصادية وطرح معاناة أشخاص افتراضيين لا يحظون بأي حماية من المجتمع، والتي لا يمكن تبرير نواياها المبطنة بجمع الإعجابات وحدها، وإنما تعمدها بث تلك الرسائل المضللة والحلول العبثية لإبقاء المتلقين في دوامة المشاعر الغاضبة التي تحصد السلبية وضعف الانسجام الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب مزيداً من الوعي المجتمعي من خلال استنفار جهود المؤسسات الإعلامية والثقافية والتربوية لحماية أبنائنا ومجتمعنا بشكل عام من خطر تلك المنصات المضللة.
رامي سلوم