فاتح المدرس التشكيلي الرائد
“البعث الأسبوعية” سلوى عباس
في إحدى ساحات دمشق يقع “قبو” رطب معتم أنارته لوحات الفنان فاتح المدرس الذي حوّله إلى مرسم يدخله الزائر محاصراً بالارتباك وهو ينقّل نظره في تفاصيل المكان بحذر خوفاً من أن تصدر منه حركة في غير مكانها تسبب خللاً في تلك الفوضى المنتظمة بتفاصيلها العالقة على السطوح الصغيرة التي تركها الزمن شاهدة استثنائية على عبوره، حيث في مكان قصي من المرسم يجلس الفنان المدّرس أمام لوحته بوجهه القاسي الملامح مما يزيد في ارتباك الزائر، وقد كان المدرّس يقرأ هذه الحالة على وجه زائره فيبادره بالسؤال ماذا يريد أن يعرف عنه وهن فنه فيتبدد الارتباك وتأخذ الجلسة طابع العفوية والبساطة، ففي هذا المرسم الذي أصبح قِبلة للكثير من الفنانين المخضرمين والشباب والمهتمين بالثقافة والفن التشكيلي، كان كل شيء يشي بالذاكرة، ذاكرة غائمة آتية من أمكنة وأزمنة أخرى.
مادعاني إلى هذه المقدمة عن الفنان فاتح المدرّس المبادرة التي قامت بها مشكورة المؤسسة العامة للبريد إذ ذكرى فاتح المدرّس (1922-2022) بطابع صغير صمّمته الفنانة منى بو حمدان، استكمالاً لمشروعها في تخليد أسماء المبدعين السوريين الذي بدأته منذ عام 2005 بإصدار مجموعة من الطوابع تحمل صورهم، وفي الطابع تمتزج صورة الفنان المدرّس بإحدى لوحاته في محاولة لاستعادة سيرته الكاملة منذ أربعينيات القرن الماضي، والسؤال الذي يحضر هنا ألا يستحق فنان بحجم فاتح المدرّس أن يحتفى به بأكثر من طابع ولو عبر احتفالية يشارك فيها أصدقاءه ومحبوه باستحضار تجربته الإبداعية والحياتية، فهو فنان له تجربته الفنية الخاصة والمتشعبة؛ تجربة اتسمت بالتمرد والعبقرية في فنه التشكيلي وكتاباته القصصية والشعرية والنقدية، فإلى جانب الرسم نجد التداخلات الشعرية والقصصية والموسيقية، وأشكالاً أخرى من التعبير قد يتطور بعضها إلى درجة تتماثل في الإنتاج الفكري الأول “أي اللوحة”، وبالتالي نجد أنفسنا في منطقة أخرى تحمل في ثناياها ذات الأسلوب في التقصّي وتختلف في الشكل الفني الخارجي، إذ أن الإنسان منذ بداية الخلق كان ومازال يبحث عن مساحات أكبر من أجل التواصل مع هذا الكون عبر لغة تحمل ملامح الأنا في الكل، من خلال البحث والتجربة وامتلاك حالة من الوعي لقيم الحق والجمال، وما لحظات التجلّي والانصهار إلّا حالة انفلات من القوانين للوصول إلى حالات تتسم بالحرية، وتحمل ومضات إبداعية وهذا مانجده في الحوار التفاعلي بين الفنان فاتح المدرس والشاعر أدونيس، حيث ابتكر الاثنان قصيدة تشكيلية شديدة الإضاءة على علاقة الإنسان بالفن وعلاقة الشعراء بالفنانين، ونقرأ تجلّيات مفكِرَين صديقين عبّرا بلغة تعبيرية قوامها المصارحة والعفوية، عمّا وراء الكلام، وعن رؤية كل منهما للعالم بإدراكه الخاص ونظرته الرمزية، وقد أوحى هذا الحوار الذي امتد أياماً بين أدونيس والمُدرّس، بتكامل ضمني ما بين الشعر والرسم، على الرغم من وجود اختلافات في أساليب التعبير والتأثيرات اللونية واللغوية والمكانية، كما كشف عن عوالم مستترة يعيشها المبدعون بين مناطق الإغواء والشغف والمشاعر وأساليب التخيّل والتفكير، إضافة إلى عمليات الإدراك الخاصة لموضوعات حسّاسة، كالشيخوخة التي رفض المدرّس الاعتراف بها قائلاً: “ليس هنالك شيخوخة، فوراء الإنسان عالم ضخم حيّ، هنالك موت”. وهنا اعتبر أن افتقاد الإنسان لعنصر الدهشة قبل أن يموت، “يعني موته منذ زمن”.
كما ترك المدرّس لنا عدداً كبيراً من الكتابات، منها مجموعة قصصيّة بعنوان (عود النعنع) كما شارك عام 1962 مع الفنانين محمود دعدوش وعبد العزيز علون بنشر أول بيان فنيّ في الفلسفة الجمالية للفنّ العربي، وهناك مؤلّفاتٌ أخرى منها: دراسات في النقد الفني المعاصر، وتاريخ الفنون في اليمن قبل الميلاد، ومجموعة محاضرات عن فلسفة الفنون ونظرياته عام 600 ق.م. وفي سنة 1962 نُشرت له أوّل قصيدةٍ في مجلة (القيثارة) الصادرة في مدينة اللّاذقية بعنوان “الأميرة”.