كيف أسطرت إيرين باباس حياتها الخالدة؟
غالية خوجة
بعد 96 عاماً يتوفاها الله في الشهر ذاته من مولدها عام 1926، هي التي لا تعلم بأنها ستكون نجمة عالمية تبدأ إشعاعها من اليونان- قرية تشيليومودي، لتترعرع في أثينا المدينة التي فلسفت الحياة بطريقتها الإغريقية، وذكرها هوميروس في الإلياذة والأوديسا، لتصل باباس مع فيلم الأوديسا إلى الأمواج المحلقة برهبة أسطورية وأداء معتّق بالإحساس والملامح، تماماً، كما فعلت بفيلم زوربا، وفيلمي أسد الصحراء- عمر المختار في دور مبروكة، والرسالة في دور هند بنت عتبة، وهما من إخراج الحلبي العالمي مصطفى العقاد، وفيلم (مدافع نافارون) في دور (ماريا باباديموس)، فيلم (زد) بدور (هيلين)، (آن ذات الألف يوم)، وأهم ألبوماتها الغنائية رابسودي والأوديسا التي لحنها الموسيقار (فانجيليس) اليوناني الحائز على جائزة الأوسكار عن موسيقا فيلم عربات النار (1981)، وتنقلنا موسيقا (الأوديسا)، لحناً وغناء، إلى عوالم حوريات الإلياذة والأوديسا، لتخرج الموسيقا من الموج العميق مثل شخصيات مسحورة، أطيافها البيضاء تتجول في المراكب، ولا تثبت بين (أثينا) و(طروادة)، بين (آخيل) و(أوديسيوس)، بل تظلّ متحركة عبْر الأزمنة والأمكنة.
ولربما، شعرتْ هذه المبدعة العالمية باباس، بأنها منذورة للفن، ودون أي سؤال عن الأسباب، تابعتْ حياتها، فلم تفتقدها على الجانب الآخر من الوهم، ولم تجدها إلاّ في التمثيل والغناء، لدرجة أنها لا تمثّل، بل هي حقاً تلك الشخصيات التي أدّتها، وتلك الكلمات التي غنّتها بحواسها، جاعلة من روحها محوراً لكل حركة، وإيماءة، وغورٍ في المعنى، ولذلك لفتت قلوب العالم، ونالت العديد من الجوائز المهمّة، منها أفضل ممثلة في مهرجان برلين 1961، وجائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا السينمائي.
وتشعّ من ديناميكية إيرين باباس بين التمثيل والغناء، لغة خالدة تنعكس من حركاتها وصمتها وصوتها المعبّر بعمق عن الدلالة، ومدى عمقها المشتبك مع إيقاعاتها المتنوعة، وهذا ما أثبتته في أعمالها الفنية الخالدة، التي تجاوزت السبعين عملاً تمثيلياً، و(120) أغنيةً، عبْر مسيرتها المتميزة، منذ بدايتها في سن صغيرة، ودخولها مدرسة المواهب في منتصف الثلاثينيات، وكيف بدأت مع المسرح في مدرسة تعليمية، ثم بدأت تشارك بكثافة في البرامج التلفزيونية، واكتشفت موهبتها الغنائية فتقدمت لإحدى المسابقات وفازت، ثم انطلق مشوارها منذ (1940)، وأحيت العديد من الحفلات، إلى أن أصبحت سفيرة للنوايا الحسنة، منطلقة إلى أمريكا عام (1941)، لتواصل التمثيل إلى جانب الغناء، وإضافة لألحان فانجيليس، غنّت من ألحان الموسيقار اليوناني ميكيس ثيودوراكيس.
أمّا أهم ما يميّز أداءها فهو الأداء الطبيعي المتلائم تناغمياً مع الحركة والشخصية والملامح والإشارة والإيماءة، مما ينتج نسيجاً خاصاً للجاذبية التي تمتّعت بها باباس تضاف إلى الدرامية الشيقة العاكسة لحالة خاصة لأنها بنية مثقفة من الداخل، متجذرة في الفن، عارفة لطاقاتها ومكامنها وكيف تعتمد على فطرتها الأدائية الموظفة ضمن منظومة مثقفة بالتجربة والأداء والحركة، لتشرق ملامحها الجوانية، وملامحها الشخصية الظاهرة، بما يترك حالة تعبيرية متكاملة لدى المتلقي الذي يتابعها على الشاشة السينمائية والتلفازية والإلكترونية أو على منصة المسرح، ولا بدّ أن تترسب في دواخله تبعاً لدرجة حساسيته ومخيلته، كما، ولا بد، من أن تترك (باباس) تلك الجاذبية المفعمة بالرومانسية، والقوة بالشفافية، والحضور المبهر، وهي تجمع التداخلات المتناقضة، لكن، غير المتضادة، مانحة لحضورها المميز أداء يشبه السوريالية الخاصة المنطلقة من شخصيتها لتشعّ على الدلالة الأخرى الأصيلة وهي تصعد جبال الأولمب نحو الملحمة التي لا تنتهي.