صناديق سورية و”باندورا” واشنطن
أحمد حسن
بالأمس أغلقت سورية صناديق الاقتراع لتشكيل المجالس المحلية كصيغة دستورية وطنية لتمكين المواطنين من إدارة شؤونهم المعيشية والخدمية بأنفسهم، في وقت واصلت واشنطن، وأتباعها، فتح “صندوق باندورا” المعروف وإطلاق شياطينه وشروره في سياق خطتها الرامية إلى تعميم الفوضى في المنطقة والعالم، لعلمها التام أن استقرار سورية يشكّل ركيزة أساسية لاستقرار للمنطقة بأكملها، وأول هذه الشرور تقديم التغطية الكاملة، العسكرية والسياسية، للعدو الإسرائيلي كي يكثّف اعتداءاته على الجغرافيا السورية والمرافق المدنية وسط صمت عالمي وعربي مطبق وفاجر أيضاً.
وبالطبع، فإن الخطوات الأمريكية لم ولن تتوقف عند ذلك، فبعد عرقلتها عودة العرب إلى دمشق انتقلت واشنطن إلى ضخّ الروح في هياكل “التجمعات” التي أنشأتها – أو أنُشئت بأوامرها – بداية الأزمة تحت مسمّيات براقة مثل “الائتلاف” أو “هيئة التفاوض” وإعادة تشكيلها وتفعيلها ولو تحت مسميات جديدة، بعد تأكّدها من انقلاب “ظهر المجنّ” لها حيث “تتعيّش” حالياً سواء عبر الطرد، أو على الأقل التضييق على حركتها، في ظل ما يقال عن سيرة إقليمية “أردوغانية” جديدة سُطّرت صفحاتها بحقيقتين ساطعتين: الأولى تحطّم وهم إسقاط سورية بعد اصطدامه بجدار شعبها المنيع وبالتالي ضرورة طيّ صفحة السيرة الفاشلة لقصة “فتح” دول الجوار وإسقاط أنظمتها، ومن الملاحظ بدء بروز سردية أردوغانية تحمّل هذه السياسة لوزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو، والثاني البراغماتية “السلطانية” المعروفة والمدفوعة بحاجة داخلية هدفها التخفف من حمولة المهجّرين السوريين الجاثمة سلباً على حظوظه الانتخابية في الانتخابات الرئاسية القادمة، والذين أصبحوا، في هذه الحالة، عبئاً ومغرماً لا مطمعاً ومغنماً كما كانوا في السابق.
وأبعد من ذلك فإن واشنطن لم تكتفِ باستضافة “الرموز والهياكل” المعارضة، وإن لوقت محدود، بل بدأت العمل على فكرة تقسيم جغرافي ناجز عن طريق خلق واقع اقتصادي جديد يمتدّ من معاقلها في الشمال الشرقي إلى كل مناطق الشمال السوري -بما فيها مناطق سيطرة “جبهة النصرة” الصديقة! بعد أن ألبسوا “الجولاني” ربطة عنق غربية – عبر استثنائها من “قانون قيصر”، وبالتالي الإيعاز لبعض “صناديقها المالية” في المنطقة بضخّ معونات مالية واستثمارية فيها مقابل تشديد حصارها على بقية أنحاء سورية، في الوقت ذاته الذي عمدت فيه إلى تجميد القرارات الدولية ذات الصلة بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية وقضايا التعافي المبكر، التي لم يجفّ حبرها الأممي بعد.
وبالتأكيد، فإن ما سبق يشكّل خطواتٍ أمريكية مؤثرة وخطيرة ليس لها سوى أن تطيل في عمر معاناة الشعب السوري، لكن مصيرها، وبالتجربة، لن يكون إلا مثل سابقاتها التي صمد لها وبوجهها السوريون فأسقطوها وأسقطوا معها كل المتعاملين والمتلاعبين، ونحن نشهد اليوم على أن من كان يفاخر بولوغه في الدم السوري وإرسال إرهابيين تحت اسم الجهاد لتدمير سورية أصبح الآن مطلوباً أمام سلطات بلاده بالتهمة ذاتها، وتونس تقدّم اليوم أحد الأمثلة المهمة على ذلك، وسيليها غيرها على هذا الطريق حكماً مهما طال الزمن.
بيد أن خطوات واشنطن المجرمة، كما لم تمنع سورية في أحلك اللحظات عن الاستمرار في الانضباط الدستوري واحترام مندرجاته ومواعيده وإجراءاته، فإنها لن تمنعها اليوم من المتابعة في هذا الطريق، لأنها تعرف جيداً معناه ومغزاه الحقيقي، ولذلك وهي تغلق بالأمس صناديق اقتراع “المحليات” فإنها تعلن، بغض النظر عن ملاحظة هنا وتقصير هناك، أنها، وكما اعتادت باقية على قيد الحياة الفاعلة لا المنفعلة فقط، ودليل ذلك كثرة “التوابين الأوابين” المتزاحمين هذه الأيام على أبواب دمشق لإعادة الانتظام سيراً في “شارعها المستقيم” بمعناه ومغزاه الذي يعرفه الجميع.