قراءة في كتاب “القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية”
علي اليوسف
تثري تجربة هنري كيسنجر العامة، ومعرفته الشخصية، وتصوراته التاريخية، كتابه الصادر في نيسان الماضي (القيادة: ست دراسات في الإستراتيجية العالمية) بأفكار مهمّة، حيث يركز كيسنجر على ستة بينهم مستشار ألمانيا كونراد أديناور، والأب الروحي للجمهورية الفرنسية الخامسة شارل ديغول.
في كتابه التاسع عشر الصادر عن دار “بنغوين” في 528 صفحة، يعتقد كيسنجر أن ما يجمع هؤلاء، وفق ما يقول في مقدمة الكتاب، أنهم تشكلوا جميعاً في ظروف صعبة وفترات تاريخية مضطربة، وقد أسعده الحظ، كما كتب، بمقابلتهم جميعاً، وبالعمل عن قرب مع أحدهم، وهو ريتشارد نيكسون.
يوجز كيسنجر في تقديمه الملامح العامة لكلّ هؤلاء، فيكتب أن كونراد أديناور قاد بلده من أدنى نقطة في تاريخها بأن جعلها تتخلّى عن سعيها الطويل إلى السيطرة على أوروبا، وثبتها في الحلف الأطلسي، وأعاد بناءها على أساس أخلاقي انعكست فيه قيمها المسيحية وقناعاتها الديمقراطية، وأن شارل ديغول أعاد بناء هيكل فرنسا السياسي مرة بعد انهيارها في الحرب العالمية الثانية، ومرة ثانية، عام 1958، إذ أحيا روحها ومنع وقوع حرب أهلية فيها، وقاد انتقالها التاريخي من إمبراطورية مهزومة مقسّمة مفرطة الاتساع إلى بلد وطني يتسم بالاستقرار والرخاء. وفي حين أن ريتشارد نيكسون هو الرئيس الوحيد في تاريخ أميركا الذي استقال من منصبه إثر فضيحة “ووترغيت”، لكنه في الفترة من 1969 إلى 1974 قاد الولايات المتحدة حتى أخرجها من صراع فيتنام، وجعل للسياسة الخارجية الأميركية موطئ قدم على المسرح العالمي، وأقام علاقات مع الصين، ورسخ مفهوماً للنظام العالمي قائماً على التوازن. ولي كوان يو صاغ تطور ميناء فقير متعدّد الأعراق يقع على حافة المحيط الهادئ، فتحولت سنغافورة في ظل قيادته إلى بلد ينعمُ بالرخاء والأمن وحسن الإدارة ويجتمع شعبه على هوية وطنية هي قوام وحدته. وورثت مارغريت تاتشر سنة 1979 إمبراطورية فقدت امتدادها العالمي وأهميتها على المستوى الدولي، فاستطاعت تجديد حيوية بلدها من خلال إصلاح اقتصادي واتباع سياسة خارجية قائمة على توازن بين الجرأة والحذر.
ثم ينتقلُ كيسنجر في كتابه إلى أن أي مجتمع، مهما يكن نظامه السياسي، يعيش حالة انتقال مستمرة بين ماضٍ يشكل ذاكرته ورؤية للمستقبل تلهمه تطوره، وأن القيادة، التي تمضي بالمجتمع عبر هذا المسار أمر لا غنى عنه، فلا بد لقرارات أن تتخذ، وثقة أن تكتسب، ووعود أن تحفظ. ويؤكد الكاتب أن القيادة في جميع المؤسّسات من دول وأديان وجيوش وشركات ومدارس هي حالة ضرورية لمساعدة الناس على الوصول من حيث هم إلى حيث لم يكن لهم وجود من قبل، لأنه من دون القيادة تجنح المؤسّسات وتفقد الأمم أهميتها وتنتهي إلى الكارثة.
في كتابه، يصرّ كيسنجر على القائد الفرد، ويقول: “القادة يفكرون ويعملون عند تقاطع محورين: الأول بين الماضي والمستقبل، والثاني بين القيم الثابتة وطموحات من يقودونهم”. لاحقاً، يحدّد كيسنجر خصلتين أساسيتين في أي قائد هما الشجاعة والشخصية، فالشجاعة بالنسبة للكاتب هي اختيار الموقف الصحيح من جملة الخيارات الصعبة المعقدة، أما الشخصية فيجب أن تكون قوية في لحظة صنع القرار. ثم يلفت الكتاب النظر إلى أن القادة يعملون في ظلّ قيود ومحدّدات، منها منافسة لاعبين آخرين ربما يكونون حلفاء أو شركاء أو خصوماً، ومنها ضغوط المواقف التي قد ترغم القائد على اللجوء إلى حدسه وغريزته، ومنها ندرة المعلومات في لحظة اتخاذ القرار. أما الإستراتيجية فهي الكلمة المفتاحية التي تصف ما يصل إليه القائد في ظل هذه القيود، فمن خلالها يستطيع اتخاذ القرار في الوقت المناسب.
ينقلُ كيسنجر عن ونستون تشيرشل قوله: “إن اللجوء إلى رجال الدولة لا يكون من أجل تسوية القضايا اليسيرة، لأنها كثيراً ما تسوي نفسها بنفسها، ولكن حينما يختلّ التوازن، وتختفي الأحجام في الضباب، تسنح الفرصة لاتخاذ قرارات إنقاذ العالم. القائد الحق أشبه بفنان ينحتُ من خامات الحاضر تمثالاً للمستقبل، والقادة الاستراتيجيون بحاجة إلى خصال الفنانين للانطلاق من الواقع المبتذل إلى آفاق المستقبل”.
وفي فصل آخر من كتابه، يفرّق كيسنجر بين نوعين من القادة: رجل الدولة والملهم، ويرى أن أغلب القادة هم إداريون، وأن كلّ مجتمع بحاجة إلى من يديرون شؤونه اليومية المعتادة، لكن في أوقات الأزمات، من حروب إلى تغيرات تكنولوجية سريعة إلى خلل اقتصادي أو اضطراب أيديولوجي، يقتضي الأمر وجود قادة قادرين على إحداث التغيير.
ويرى أن القادة من رجال الدولة هم الذين يحلّلون الموقف القائم راغبين أن يحققوا في حدوده أقصى الممكن، موازنين بين الرؤية والمخاطرة. أما الملهمون في ما يرى كيسنجر فلا يقبلون هذه التفرقة أصلاً، وإنما يعتقدون أنه لا بد من إعمال رؤاهم بأسرع ما يمكن، وأن هذه الرؤى هي التي تحدّد أهمية دورهم السياسي، وهنا يضع الثعلب كيسنجر رأيه الشخصي بأن الرؤية الملهمة هي في الغالب الرؤية الأكثر رفعة والأقدر على تحقيق التحولات التاريخية.
يقول كيسنجر مثلاً إن تشيرشل بين 1929-1939، وهي السنوات المعروفة بـ”سنوات البرية”، وديغول في مرحلة قيادته لفرنسا الحرة، كانا ينتميان إلى فئة الملهمين، وعملياً، كلّ قائد من القادة الستة الذين يتناولهم هذا الكتاب هو مركّب من النزعتين، مع ميل ما إلى طبيعة رجل الدولة.
يبدو واضحاً من الكتاب أن كيسنجر تناول فقط أداء أولئك القادة على الصعيد العالمي، وليس على الصعيد الداخلي، حتى أن ستيف دوناغيو في استعراضه الغاضب للكتاب في موقع “أوبن ليترز”، 17 حزيران الماضي، قال: “هنري كيسنجر قد لا يستطيع -في عمره الحالي- أن يصعد الدرج من طابق إلى طابق، لكنه لا يزال قادراً على أن يكذب قبل أن يكمل كتابة الفهرست”.