السباحة مع ظل خليل هنداوي
غالية خوجة
تحلو الأيام في حلب، وتتبدّل مثل الفصول، لتكون وردة تطير بلا أجنحة، وتحملنا بين الآثار الخارجة تواً من أزمنة القلب والصهيل والحكايات، فتنبع لغات المكان عبْر العصور وتأخذنا برحلة معاصرة إلى ما يحدث في هذه اللحظة منتشراً بين السماء والأرض.
رائحة القهوة الصباحية تتنافس على الانتشار مثل رائحة الياسمين، وربات البيوت يتهيّأن لزيارة صباحية للجارة، أو لفرن الخبز، أو للذهاب إلى التسوق، بينما الرجال والشباب والصبايا يتحركون إلى أعمالهم ومهامهم ومحلاتهم وأشغالهم الأخرى.
وهناك، بين الأزقة، تلهو طفلة لا تهمّها ثيابها إن كانت متواضعة أو قديمة، بل يشغل تفكيرها الهواء الحار، وكيف سيكون يومها مع والديها وإخوتها وهي تنظر إلى الناس المتحركين في المكان.
وهنا، في الحديقة العامة، يلهو الصبية الصغار بماء البركة، فيتراشقون بالماء، ويسبحون، وضحكاتهم البريئة تصبح ظلاً لأشعة الشمس، فتكسر الموجة على الموجة ويبدو ظلّ الأديب الحلبي خليل هنداوي سابحاً معهم دون أن ينتبهوا له وهو يتسرّب من منحوتة تجسده أمام أحد أبواب الحديقة.
حديقة حلب المتفردة لا تستقبلك مع حشد من الطمأنينة وزقزقة العصافير والأغاني والأشجار المعمّرة فقط، بل تستقبلك مع شخصياتها الأدبية أيضاً، فلكلّ باب من أبواب الحديقة منحوتة لشخصية مؤثرة، فهذا باب الأديب خليل هنداوي، وذاك باب الشاعر البحتري، بينما الباب الرئيسي فهو باب الشاعر أبي فراس الحمداني.
ما زال الصبية يلهون بالماء، فأستأذنهم لأصورهم، فيفرحون أكثر، ويبرزون مهاراتهم في السباحة، والقفز في الماء، تماماً، كما فعل الصبية في بركة ساحة سعد الله الجابري، وهم يلهون بالماء ويسبحون في مياه البركة بدل الذهاب إلى المسبح الذي لا يملكون ثمن الرحلة إليه، لكنهم يعرفون كيف يبتكرون لحظاتهم غير آبهين بما قد يكون في الماء من أمراض لأنه غير معدّ للسباحة.
الصبية يتضاحكون وفرحتهم لا توصف بما يفعلون، بينما أتابع مسيري إلى وجهتي، لأرى حماراً واقفاً بانتظار أحد ما، دون أن يكترث لعربته التي يجرّها وهي تضجّ بأشياء مختلفة متداخلة.
أصابتني الدهشة من الحمار الواقف كما تقف السيارة في أحد شوارع الساحة، وعندما هممتُ بتصويره، شاهدت أحد الصبية وقد خرج من بركة ماء سعد الله راكضاً إليه، ثم قفز إلى العربة الخشبية، ليرتدي ثيابه، فضحكت من المشهدين، ومضيت، بينما الجميع في هذه المدينة منشغل بكل شيء رغم كلّ شيء.
رائحة القهوة تسبح هي أيضاً مع ظلال شخصيات أدبية وعلمية ودينية في هواء حلب، وتنثر أفكارها مع النسمات العليلة وروائح الصباح ومشهد النهار وهو يمطّ رأسه من قصيدة نزار قباني “قارئة الفنجان”، لتحيلنا إلى ذكريات عشناها جميعاً، بلا شكّ، مع البصارة التي تقرأ أشكالاً فنية رسمتها القهوة، لتوهم الغالبية بأنها تقرأ المستقبل والماضي، ولو كانت فعلاً كذلك، لعرفت مستقبلها أولاً، لكن فضول الناس يدفعهم إلى التسلية بهذه القراءة على غرار قراءة الطالع والكف والملامح التي قرأها نزار قباني بطريقة معاكسة، لأنه قرأ ملامح قارئة الفنجان “جلست والخوف بعينيها”، وكذا، غنّاها عبد الحليم بصوت معبّر عن الفكرة وقراءة الفكرة، مما يجعلنا نقرأ ملامح اليوم من أول إشعاع للفجر وهو يتماوج مثل ظلال الوقت مع إطلالة الشمس التدريجية التي لا تنتظر أحداً.